المنشورات
حسن البصري في المواعظ
وحدثت أن راهبين دخلا البصرة من ناحية الشام، فنظرا إلى الحسن البصري، فقال أحدهما لصاحبه: مل بنا إلى هذا الذي كأن سمته سمت المسيح، فعدلا إليه، فألفياه مفترشاً بذقنه ظاهر كفه، وهو يقول: يا عجباً لقوم قد أمروابالزاد، وأوذنوا بالرحيل، وأقام أولهم على آخرهم! فليت شعري ما الذي ينتظرون?
ونظر الحسن إلى الناس في مصلى البصرة يضحكون ويلعبون في يوم عيد، فقال الحسن: إن الله جعل الصوم مضماراً لعباده ليستبقوا إلى طاعته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف آخرون فخابو، ولعمري لو كشف الغطاء لشغل محسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإساءته عن تجديد ثوب، أو ترطيل شعرٍ.
قوله:" ترطيل شعر" إنما تلبين الشعر بالدهن وما أشبهه، ويقال للرجل إذا كان فيه لينٌ وتوضيع: رجل رطلٌ، والذي يوزن به ويكال يقال له: رطلٌ، بكسر الراء.
وكان الحسن يقول: اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عيها ولا تعمرها.
قوله القنطرة يعني هذه المعقودة المعروفة عند الناس، والعرب تسمي كل أزج1 قنطرة قال طرفة بن العبد:
كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفاً حتى تشاد بقرمد
قوله"حتى تشاد" يقول: تطلى، وكل شيء طليت به البناء من جص أو جيار، وهو الكلس، فهو المشيد، يقال: دار مشيدةٌ، وقصر مشيدٌ، قال الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 2 وقال الشماخ:
لا تحسبني وإن كنت امرأً غمراً ... كحية الماء بين الطين والشيد
وقال عدي بن زيد العبادي:
شاده مرمراً وجلله كِْلـ ... ـساً فللطير في ذراه وكور
والمقرمد: المطلي أيضاً، فمن ثم قال: "حتى تشاد بقرمد" في معنى حتى تطلى، ومن ذلك قول النابغة:
رابي المجسة بالعبير مقرمد3
وقال الحسن: تلقى أحدهم أبيض بضاً، يملخ في الباطل ملخاً، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه، يقول: هأنذا فاعرفوني. قد عرفناك، فمقتك الله، ومقتك الصالحون.
قوله: "أبيض بضاً" فالبض الرقيق اللون، الذي يؤثر فيه كل شيء.
وفي الحديث أن معاوية قدم على عمر بن الخطاب رحمهما الله1 من الشام وهو أبض الناس، فضرب عمر بيده على عضده، فأقلع عن مثل الشراب، أو مثل الشراك، فقال: هذا والله لتشاغلك بالحمامت، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسراتٍ على بابك! وقال حميد بن ثورٍ الهلالي:
منعمةٌ بيضاء لو دب محولٌ ... على جلدها بضت مدارجه دما
وقوله: "يملخ في الباطل ملخاً، يقول: يمر مراً سريعاً، يقال: بكرةٌ ملوخٌ إذا كانت سهلة المر.
وقوله:" يضرب أصدريه وأزدريه"، فإنما يقال ذلك للفارغ، يقال: جاء فلان يضرب أصدريه وأزدريه، ولا يتكلم منه بواحدٍ، ويقال: فلانٌ ينفض مذرويه، وهما ناحيتاه، وإنما يوصف بالخيلاء، قال عنترة:
أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني، فهأنذا عمارا
ولا واحد لهما، ولو أفردت لقلت في التثنية مذريان، لأن ذوات الواو إذا وقعت فيهن الواو رابعة رجعت إلى الياء، كما تقول في ملهى: ملهيان، وهو من لهوت، وفي مغزى: مغزيان، وهو من غزوت، وإنما فعلت ذلك لأن فعله ترجع فيه الواو إلى الياء إذا كانت رابعة فصاعداً، نحو غزوت، فإذا أدخلت فيه الألف قلت: أغزيت، وكذلك غازيت واستغزيت، وإنما وجب هذا لانقلابها في المضارع، نحو يغزي، ويستغزي، ويغازي، وإنما انقلبت لانكسار ما قبلها.
فإن قال قائل: فما بال يترجى ويتغازى، يكونان بالياء، نحو: هما يتغازيان ويترجيلن? فإنما ذلك لأنهما في الأصل: رجى يرجي، وغازى يغازي، ثم لحقت التاء بعد ثبات الياء. والدليل على ذلك أن التاء إنما تلحقه على معناه، فقولك: مذروان لا واحد له لما أعلمتك، وثبات الواو دليلٌ على أن أحدهما لا يفرد من الآخر، فلذلك جاء على أصله1.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
31 مايو 2024
تعليقات (0)