المنشورات
الفرزدق ونصيب وما قالاه من الشعر عند سليمان بن عبد الملك
وقد فضل نصيبٌ على الفرزدق في موقفه عند سليمان بن عبد الملك، وذلك أنهما حضرا، فقال سليمان للفرزدق: أنشدني -وإنما أراد أن ينشده مدحاً له- فأنشده:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترةٌ من جذبها بالعصائب1
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب2
إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... -وقد خصرت أيديهم- نار غالب3
فأعرض عنه سليمان كالمغضب، فقال نصيب: يا أمير المؤمنين، ألا أنشدك في رويها ما لعله لا يتضع عنها! فقال: هات، فأنشده:
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب4
قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالب5
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وهذا في باب المدح حسن ومتجاوزٌ ومبتدع لم يسبق إليه. على أن الشاعر وهو أخو همدان قد قال في عصره في غير المدح:
يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلاً زريق المال ندل الثعالب
وليس شعر نصيب هذا الذي ذكرناه في المدح بأجود من قول الفرزدق في الفخر، وإنما يفاضل بين الشيئين إذا تناسبا.
وقد قال سليمان للفرزدق وهو يقول:
وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد
ثم نرجع إلى تفسير الشعر.
وقوله:
يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم
يعني قوماً تجاراً، وقد قالو إنما ذكر لصوصاً، والأول أثبت، وذلك أن دارين سوقٌ من أسواق العرب.
وقوله: "بجر الحقائب" يقول: عظام، ويقال للرجل إذا اندلقت سرته فنتأت متقدمة: رجل أبجر، ويقال لها: البجرة والبجرةَ. وفعلةٌ وفعَلةٌ تقعان في الشييء، يقال: قلفةٌ وقَلفةٌ، وصلعة وصَلعةٌ، ومثل هذا كثير.
وقوله: "على حين ألهى الناس" إن شئت خفضت"حين" وإن شئت نصبت، أما الخفض فلأنه مخفوض فلأنه مخفوض، وهو اسم منصرف، وأما الفتح فلإضافتك إياه إلى شيء معرب، فبنيته على الفتح، لأن المضاف والمضاف إليه اسم واحد فبنيته من أجل ذلك، ولو كان الذي أضفته إليه معرباً لم يكن إلا محفوضاً، وما كان سوى ذلك فهو لحن، تقول" جئتك على حين زيد" و" جئتك في حين إمرة عبد الملك"، وكذا قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت: ألما أصح والشيب وازع!
إن شئت فتحت، وإن شئت خفضت، لأنه مضاف إلى فعل غير متمكن.
وكذلك قولهم: "يومئذ"، تقول: عجبت من يوم عبد الله، لا يكون غيره، فإذا أضفته إلى" إذ"، فإن شئت فتحت على ما ذكرت لك في "حين"، وإن شئت خفضت، لما كان يستحقه اليوم من التمكن قبل الإضافة. تقرأ إن شئت:
{مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} 1، وإن شئت: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} على ما وصفت لك، ومن خفض بالإضافة قال: سير بزيدٍ يومئذ، فأعربته في موضع الرفع، كما فعلت به في الخفض، ومن قال: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} فبناه قال: سير بزيدٍ يومئذٍ، يكون على حالة واحدة لأنه مبني، كما تقول: دفع إلى زيد خمسة عشر درهماً، وكما قال عز وجل: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} 2 وأما قوله:
فندلاً زريق المال ندل الثعالب
فزريق قبيلة. وقوله" ندلاً" مصدر، يقول، اندلي ندلاً يا زريق المال، والندل: أن تجذبه جذباً، يقال: ندل الرجلا الدلو ندلاً إذا كان يجذبها مملوءة من البئر، فنصب" ندلاً "بفعل مضمر وهو" أندلي "وهذا في الأمر، تقول: ضرباً زيداً، وشتما عبد الله، لأن الأمر لا يكون إلا بفعل، فكان الفعل فيه أقوى، فلذلك أضمرته، ودل المصدر على الفعل المضمر، ولو كان خبراً لم يجز فيه الإضمار، لأن الخبر يكون بالفعل وغيره، والأمر لا يكون إلا بالفعل، قال الله عز وجل: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} 3. فكان في موضع "اضربوا"، حتى: كان القائل قال: فاضربوا، ألا ترى أنه ذكر بعده محضاً في قوله: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} ولو نون منون في غير القرآن لنصب "الرقاب" وكذلك كل موضع هو بالفعل أولى.
وقوله: "ندل الثعالب" يريد سرعة الثعالب، يقال في المثل: "أكسب من ثعلب".
وأما قول نصيب:
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب فإنما يريد أنهم يرجعون مملوءة حقائبهم من رفده، فقد أثنت عليه الحقائب من قبل أن يقولوا. وأما قول الأعشى:
وإن عتاق العيس سوف تزوركم ... ثناء على أعجازهن معلق1
فإنما أراد المدح الذي يحيدين به، والحادي من ورائها، كما الهادي أمامها.
وأما قول أبي وجزة السعدي:
راحت بستين وسقًا في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السددا
فإنما أراد ما يوجب ستين وسقا، لا أن الناقة حملت ستين وسقاً
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
31 مايو 2024
تعليقات (0)