المنشورات
أعرابي في الملح
وقال أعرابي أنشدنيه أبو العالية:
ألاتسأل ذا العلم ماالذي ... يحل من التقبيل في رمضان؟
فقال لي المكي: أما لزوجةٍ ... فسبع، وأما خلةٍ فثماني
قوله: "خلةٍ" يريد ذات خلة، ويكون سماها المصدر، كما قالت الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار1
يجوز أن تكون نعتتها بالصدر لكثرته منها، ويجوز أن تكون أرادت ذات إقبال وإدبار، فحذفت المضاف وأقامت المضاف إليه مقامه، كما قال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} 2 فجائز أن يكون المعنى بر من آمن بالله، وجائز أن يكون ذا البر من آمن بالله، والمعنى يؤول إلى شيء واحد.
وفي هذا الشعر عيب، وهو الذي يسميه النحويون العطف على عاملين، وذلك أنه عطف "خلةٌ" على اللام الخافضة لزوجة، وعطف "ثمانيا" على "سبع"، ويلزم من قال هذا أن يقول: مر عبد الله بزيد وعمرو وخالد، ففيه هذا القبح، وقد قرأ بعض القراء وليس بجائز عندنا: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ آَيَاتٍ} 1 فجعل "آيات" في موضع نصب وخفضها لتاء الجميع فحملها على "إن" وعطفها بالواو، وعطف "اختلافا" على "في" ولا أرى ذا في القرآن جائزاٌ لإنه ليس بموضع ضرورة، وأنشد سيبويه لعدي بن زيد العبادي2:
أكل امرىء تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
فعطف على "امرئ" وعلى المنصوب الأول.
"قال أبو الحسن: وفيه عيب آخر أن "أما" ليست من العطف في شيء، وقد أجرى"خلة" بعدها مجراها بعد حروف العطف حملاً على المعنى، فكأنه قال: لزوجةٍ كذا ولخلة كذا.
"وقوله: "أما لزوجة" فهذه مفتوحة، وهي التي تحتاج إلى خبر، ومعناها: إذا قلت: أما زيدٌ فمنطلقٌ مهما يكن من شيء فزيدٌ منطلقٌ. وكذلك: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} 3 إنما هي: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، وتكسر إذا كانت في معنى "أو" ويلزمها التكرير، تقول: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فمعناه ضربت زيداً أو عمراً، وكذلك: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 4، وكذلك: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} 5، و {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} 6، وإنما كررتها لأنك إذا قلت: ضربت زيداً أو عمراً، أو قلت: اضرب زيداً أو عمراً فقد ابتدأت بذكر الأول، وليس عند السامع أنك تريد غير الأول، ثم جئت بالشك، أو التخيير، وإذا قلت: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فقد وضعت كلامك بالابتداء على التخيير أو على الشك، وإذا قلت: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فالأولى وقعت لبنية الكلام عليها، والثانية للعطف، لأنك تعدل بين الثاني والأول، فإنما تكسر في هذا الموضع.
وزعم سيبويه أنها إن ضمت إليها "ما" فإن اضطر شاعر فحذف "ما" جاز له ذلك لأنه الأصل، وأنشد في مصداق ذلك1:
لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعاً وإن إجمال صبر
ويجوز في غير هذا الموضع أن تقع "إما" مكسورة، ولكن "ما" لاتكون لازمة، ولكن تكون زائدة في "إن" التي هي للجزاء. كما تزداد في سائرالكلام نحو: أين تكن أكن، وأينما تكن أكن، وكذلك متى تأتني آتك، ومتى ما تأتني آتك، فتقول: إن تأتني آتك، وإما تأتني آتك، تدغم النون في الميم لاجتماعهما في الغنة، وسنذكر الإدغام في موضع نفرده به إن شاء الله، كما قال امرؤالقيس2:
فإما تريني لاأغمض ساعةٌ ... من الليل إلا أن أكب فأنعسا
فيارب رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
وفي القرآن: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} 3 وقال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} 4 فأنت في زيادة "ما" بالخيار في جميع حروف الجزاء، إلا في حرفين، فإن "ما" لابد منها لعلة نذكرها إذا أفردنا باباٌ للجزاء إن شاء الله، والحرفان: حيثما تكن أكن، كما قال الشاعر:
حيثما تستقم يقدرلك الله ... نجاحاٌ في غابر الأزمان
والحرف الثاني" إذاما" كما قال العباس بن نرداس:
إذ ما أتيت على الرسول فقل له ... حقاٌ عليك إذا اطمأن المجلس
لايكون الجزاء في" حيث" و"إذ" إلا بما.
قال أبو العباس: وأنشدني أبو العالية:
سل المفتي المكي هل في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح
فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح
وأنشد لبعض المحدثين:
تلاصقنا وليس بنا فسوق ... ولم يرد الحرام بنا اللصوق
ولكن التباعد طال حتى ... توقد في الضلوع بنا حريق
فلما أن أتيح لنا التلاقي ... تعانقنا كما اعتنق الصديق
وهل حرجاٌ تراه أو حراماٌ ... مشوق ضمه كلف مشوق1
وأنشدني غيره:
وماهجرتك النفس يامي أنها ... قلتك ولا أن قل منك نصيبها
ولكنهم يا أملح الناس أولعوا ... بقول إذا ما جئت: هذا حبيبها
أنها في موضع نصب، وكان التقدير "لأنها"، فلما حذفت اللام وصلا الفعل، فعمل، تقول: جئتك أنك تحب الخير، فمعناه لأنك، وكذلك أتيتك أن تأمر لي بشيء، أي لأن وتقديره في النصب أن: "أن" الخفيفة والفعل مصدر: نحو:
أريد أن تقوم يافتى، أى قيامك و"أن" الثقيلة واسمها وخبرها مصدر، تقول بلغني أنك منطلق، أي انطلاقك، فإذا قلت: جئتك أنك تريد الخير، فمعناها إرادتك الخير: أي مجيئي لأنك تريد الخير إرادة يافتى، كما قال الشاعر1:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
قوله:
وأغفرعوراء الكريم ادخاره
أي أدخره ادخاراٌ، وأضافه إليه، كما ثقول: ادخاراٌ له، وكذلك قوله:" تكرماٌ" إنما أراد للتكرم فأخرجه مخرج أتكرم تكرماٌ.
قال أبو العباس: وأنشدني أبو العالية2:
مازلت أبغي الحي أتبع ظلهم ... حتى دفعت إلى ربيبة هودج
قالت: وعيش أبي وأكبر إخوتي ... لأنبهن الحي إن لم تخرج
فخرجت خفية قولها، فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تخرج
فلثمت فاها آخذاٌ بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وزاد فيها الجاحظ عمرو بن بحر:
وتناولت رأسي لتعرف مسه ... بمخضب الأطراف غير مشنج3
تقول العرب: هودج، وبنو سعد زيد مناة ومن وليهم يقولون فودج. وقوله:
فعلمت أن يمينها لم تحرج
يقول: لم تضق عليها، يقال: حرج يحرج إذا دخل في مضيق والحرجة: الشجر الملتف المتضايق ما بينه، قال الله عز وجل: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} 1 وقال تعالى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 2 وقرىء "حرجاٌ"، فمن قال: "حرجاٌ "أراد التوكيد للضيق، كأنه قال: ضيق شديد الضيق. ومن قال: "حرجاٌ" جعله مصدراٌ، مثل قولك: ضيق ضيقاٌ. وقوله: "ببرد ماء الحشرج" فهو الماء الجاري على الحجارة.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
31 مايو 2024
تعليقات (0)