المنشورات
نبذ من أخبار الحجاج
ويروى عن محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني، قال: دفع إلي الحجاج أزاد مرد بن الهربذ، وأمرني أن أستخرج منه وأغلظ عليه، فلما انطلقت به قال لي: يا محمد، إن لك شرفاً وديناً، وإني لاأعطي على القسر شيئاً، فاستأدني1 وارفق بي، قال: ففعلت، فأدى إلي في أسبوع خمسمائة ألف، قال: فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه، وانتزعه من يدي، ودفعه إلى رجل كان يتولى له العذاب، فدق يديه ورجليه، ولم يعطهم شيئاً.
قال محمد بن المنتشر: فإني لأمر يوماً في السوق إذا صائحٌ بي: يا محمد، فالتفت فإذا به معرضاً على حمارٍ، مدقوق اليدين والرجلين، فخفت الحجاج إن أتيته، وتذممت منه، فملت إليه، فقال لي: إنك وليت مني ماولي هؤلاء فأحسنت، وإنهم صنعوا بي ما ترى ولم أعطهم شيئاً، وههنا خمسمائة ألف عند فلان، فخذها فهي لك، قال: فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجراً، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً، قال: فأما إذا أبيت فاسمع أحدثك: حدثني بعض أهل دينك عن نبيك "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" كثيراً، قال: إذا رضي الله عن قوم أمطرهم المطر في وقته، وجعل المال في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط عليهم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند بخلائهم، وأمطرهم المطر في غير حينه. قال: فانصرفت فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج، فأمرني بالمسير إليه، فالفيته جالساً على فرشه والسيف منتضىً في يده، فقال لي: ادن، فدنوت شيئاً، ثم قال: ادن، فدنوت شيئاً، ثم صاح الثالثة: ادن لا أبا لك! فقلت: ما بي إلى الدنو من حاجة، وفي يد الأمير ما أرى. فأضحك الله سنه، وأغمد سيفه عني، فقال لي: اجلس، ما كان من حديث الخبيث? فقلت له: أيها الأمير، والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذ بتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني. ثم حدثته الحديث، فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده أعرض عني بوجهه، وأومأ إلي بيده، وقال: لا تسمه، ثم قال: إن للخبيث نفساً، وقد سمع الأحاديث.
ويقال: كان الحجاج إذا استغرب1 ضحكاً2 والى بين الإستغفار، وكان إذا صعد المنبر تلفع بمطرفه3 ثم تكلم رويداً فلا يكاد يسمع، ثم يتزيد في الكلام، حتى يخرج يده من مطرفه ويزجر الزجرة فيفزع بها أقصى من في المسجد وكان يطعم في كل يوم ألف مائدة، على كل مائدة ثريدٌ وجنبٌ من شواءٍ وسمكة طريةٌ، ويطاف به في محفةٍ على تلك الموائد ليتفقد أمور الناس، وعلى كل مائدة عشرة، ثم يقول: يا أهل الشأم، اكسروا الخبز لئلا يعاد عليكم. وكان له ساقيان، أحدهما يسقي الماء والعسل، والآخر يسقي اللبن. ويروى أن ليلى الأخيلية قدمت عليه فأنشدته:
إذا ورد الحجاج أرضاً مريضةً ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العقام الذي بها ... غلامٌ إذا هز القناة ثناها4
فقال لها: لا تقولي: غلام، قولي: همامٌ، ثم قال لها: أي نسائي أحب إليك أن أنزلك عندها الليلة? قالت: ومن نساؤك أيها الأمير? قال أم الجلاس بنت سعيد بن العاصي الأموية، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية، وهند بنت الملهب بن أبي صفرة العتكية، فقالت: القيسية أحب إلي. فلما كان الغد دخلت عليه فقال: يا غلام أعطها خمسمائة، فقالت: أيها الأمير، اجعلها أدماً فقال قائل: إنما لك بشاء، قالت: الأمير أكرم من ذلك، فجعلها إبلاً إناثاً استحياء، وإنما كان أمر لها بشاءٍ أولاً. والأدم1: البيض من الإبل وهي أكرمها.
ويروى عن بعض الفقهاء2 قال: دعاني الحجاج فسألني عن الفريضة المخمسة وهي أمٌ وجدٌ وأخت، فقال لي: ما قال فيها الصديق رحمه الله? قلت، أعطى الأم الثلث والجد ما بقي لأنه كان يراه أباً، قال: فما قال فيها أمير المؤمنين? يعني عثمان رحمه الله قلت: جعل المال بينهم أثلاثاً، قال: فما قال فيها ابن مسعود? قال: قلت: أعطى الأخت النصف، والأم ثلث ما بقي والجد الثلثين?لأنه كان لا يفضل أما على جد. قال: فما قال فيهازيد بن ثابت?قال: قلت أعطى الأم الثلث، وجعل ما بقي بين الأخت والجد.، للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنه كان يجعل الجد كأحد الإخوة إلى الثلاثة، قال: فزم بأنفه ثم قال: فما قال فيها أبو ترابٍ? قال: قلت أعطى الأم الثلث والأخت النصف والجد السدس، قال: فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: فإنه المرء يرغب عن قوله3.
وجلس4 الحجاج يأكل ومعه جماعة على المائدة منهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة، وحجار بن أبجر بن بجير العجلي، فأقبل في وسطٍ من الطعام على محمد بن عمير بن عطاردٍ فقال: يا محمد، أيدعوك قتيبة بن مسلم إلى نصرتي يوم رستقباذ5 فتقول: هذا أمر لاناقة لي فيه ولا جمل لا جعل الله لك فيه ناقة ولا جملاٌ ياحرسي، خذ بيده وجرد سيفك فاضرب عنقه، فنظر إلي حجاربن أبجر وهو يبتسم، فدخلته العصبية، وكان مكان حجارٍ من ربيعة كمكان محمد بن عمير من مضر، وأتى الخباز بفرنيةٍ1 فقال: اجعلها مما يلي محمداً فإن اللبن يعجبه، يا حرسي، شم سيفك وانصرف.
وكان محمدٌ شريفاً، وله يقول الشاعر:
علم القبائل من معد وغيرها ... إن الجواد محمدٌ بن عطارد
وذكرت بنو دارم يوماً بحضرة عبد الملك، فقالوا: قوم لهم الحظ، فقال عبد الملك: أتقولون ذلك وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولا عقب له، ومضى القعقاع بن معبد بن زرارة ولا عقب له، ومضى محمد بن عمير بن عطارد ولا عقب له، والله لاتنسى العرب هؤلاء الثلاثة أبداً.
قوله: "شم سيفك"، يقول: اغمده، ويقال: شمت السيف: إذا سللته، وهو من الأضداد، ويقال: شمت البرق إذا نظرت من أي ناحية يأتي.
قال الأعشى:
فقلت للشرب في درنى2 وقد ثملوا: ... شيموا، وكيف يشيم الشارب الشارب الثمل!
وقال الفرزدق:
بأيدي رجالٍ لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت
وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويل لم يشيموا: لم يغمدوا ولم تكثر القتلى، أي لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت القتلى [بها] 3حين سلت.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
1 يونيو 2024
تعليقات (0)