المنشورات
جواب علي بن أبي طالب لمعاوية
فكتب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه جواب هذه الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر، أما بعد: فإنه أتاني منك كتاب امرىء ليس له بصرٌ يهديه، ولا قائدٌ يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاتبعه، زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان. ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى.
وبعد، فما أنت وعثمان إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إلي. وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير وأهل الشام وأهل البصرة، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواءٌ، لأنها بيعةٌ شاملة، لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر. وأما شرفي في الإسلام، وقرابتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته".
ثم عاد النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له: إن ابن جعيلٍ شاعر أهل الشام، وأنت شاعر أهل العراق، فأجب الرجل، فقال: ياأمير المؤمنين، أسمعني قوله، قال: إذاً أسمعك شعر شاعرٍ، فقال النجاشي يجيبه:
دعاً يا معاوي مالن يكونا ... فقد حقق الله ما تحذرون
أتاكم عليٌ بأهل العراق ... وأهل الحجاز فما تصنعونا
وبعد هذا ما نمسك عنه.
قوله: "ليسي له بصر يهديه"،فمعناه يقوده، والهادي: هو الذي يتقدم فيدل، والحادي: الذي يتأخر فيسوق، والعنق يسمى الهادي لتقدمه، قال الأعشى:
إذا كان هادي الفتى في البلا ... د صدر القناة أطاع الأميرا
يصف أنه قد عمي فإنما تهديه عصاً، ألا تراه يقول:
وهاب العثار إذا ما مشى ... وخال السهولة وعثاً وعورا
وقال القطامي:
إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي
وقال أيضاً:
قربن يقصون من بزل مخيسة ... ومن عرابٍ بعيداتٍ من الحادي
وقوله: "ولا قائد يرشده" قد أبان به الأول.
وقوله: "دعاه الهوى" فالهوى من" هويت" مقصور، وتقديره "فعل"، فانقلبت الياء ألفاً، فلذلك كان مقصوراً، وإنما كان كذلك لأنك تقول: هوي يهوى، كما تقول: فرق يفرق وهو هو، كما تقول: هو فرق، كما ترى، وكان المصدر على"فعل"، بمنزلة الفرق والحذر والبطر. لأن الوزن واحد في الفعل واسم الفاعل، فأما الهواء، من الجو فمدود، يدلك على ذلك جمعة إذا قلت: أهويةٌ، لأن أفعله إنما تكون جمع فعالٍ وفعالٍ وفعولٍ وفعيل، كما تقول قذالٌ وأقذلةٌ وحمار وأحمرةٌ، فهواءٌ كذلك، والمقصور جمعه أهواء فاعلم، لأنه على فعل، وجمع فعل أفعالٌ كما تقول: جمل وأجمال وقتب وأقتاب، قال الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 1. وقوله هذا هواء يا فتى في صفة الرجل إنما هو ذمٌ، يقول: لا قلب له، قال الله عز وجل: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} 2 أي خالية، وقال زهير:
كأن الرحل منها فوق صعلٍ ... من الظلمان جؤجؤه هواء
وهذا من هواء الجو، قال الهذلي3:
هواءٌ مثل بعلك مستميتٌ ... على ما في وعائك كالخيال
وكل واو مكسورة وقعت أولاً فهمزها جائز ينشد: "على ما في إعائك"، ويقال: وسادةٌ وإسادةٌ وشاحٌ وإشاحٌ.
وأما قوله: "فما أنت وعثمان" فالرفع فيه الوجه لأنه عطف اسماً ظاهراً على اسم مضمر منفصل وأجراه مجراه، وليس ههنا فعل، فيحمل على المفعول، فكأنه قال: فما أنت وما عثمان، هذا تقديره في العربية، ومعناه لست منه في شيء، قد ذكر سيبويه رحمه الله النصب وجوزه جوازاً حسناً وجعله مفعولاً معه، وأضمر كان من أجل الاستفهام، فتقديره عنده: ما كنت وفلاناً. وهذا الشعر كما أصف لك ينشد:
وأنت امرؤ من أهل نجدٍ وأهلنا ... تهامٍ وما النجدي والمتغور
وكذلك قوله1:
تكلفني سويق الكرم جرمٌ ... وما جرمُ وما ذاك السويق
فإن كان الأول مضمراً متصلاً كان النصب، لئلا يحمل ظاهر على مضمر، تقول: ما لك وزيداً وذلك أنه أضمر الفعل، فكأنه قال في التقدير: وملابستك زيداً، وفي النحو تقديره: مع زيد. وإنما صلح الإضمار لأن المعنى عليه إذا قلت: ما لك وزيداً فإنما تنهاه عن ملابسته، إذا لم يجز" وزيدٍ" وأضمرت لأن حروف الاستفهام للأفعال، فلو كان الفعل ظاهراً لكان على غير إضمار، نحو قولك: ما زلت وعبد الله حتى فعل، لأنه ليس يريد: ما زلت ومازال عبد الله، ولكنه أراد: وما زلت بعبد الله. فكان المفعول مخفوضاً بالياء، فلما زال ما خفضه وصل الفعل إليه فنصبه، كما قال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} 2، فالواو في معنى مع، وليست بخافضة، فكان ما بعدها على الموضع، فعلى هذا ينشد هذا الشعر3:
فما لك والتلدد حول نجدٍ ... وقد غصت تهامة بالرجال4
ولو قلت: ما شأنك وزيداً لا ختير النصب، لأن زيداً لا يلتبس بالشأن، لأن المعوطف على الشيء أبداً في مثل حاله، ولو قلت: ما شانك وشأن زيد لرفعت، لأن الشأن يعطف على الشأن، وهذه الآية تفسر على وجهين من الإعراب: أحدهما هذا، وهو الأجود فبها وهو قوله عز وجل: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} 5. فالمعنى والله أعلم: مع شركائكم، لأنك تقول: جمعت قومي، وأجمعت أمري، ويجوز أن يكون لما أدخل الشركاء مع الأمر حمله على مثل مثل لفظه. لأن المعنى يرجع إلى شيء واحد، فيكون كقوله1:
ياليت زوجك قد غدا ... مقتلداً سيفاً ورمحا
وقال آخر:
شراب ألبانٍ وتمرٍ أقط
وهذا بين.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
1 يونيو 2024
تعليقات (0)