المنشورات
فرزدق وقد نزل به ذئب فأضافه
وقال الفرزدق، ونزل به ذئبٌ فأضافه:
وأطلس عسالٍ وما كان صاحباً ... رفعت لناري موهناً فأتاني
فلما دنا قلت أدن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان
فبت أقد الزاد بيني وبينه ... على ضوء نارٍ مرة ودخان
وقلت له لمت تكشر ضاحكاً ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن عاهدتني لاتخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأنت امرؤٌ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيين كانا أرضعا بلبان
ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى ... رماك بسهمٍ أو شباة سنان
قوله:" وأطلس عسال"، فالأطلس الأغبر. وحدثني مسعود بن بشرٍ قال: أنشدني طاهر بن علي الهاشمي قال: سمعت عبد الله بن طاهر بن الحسين ينشد في صفة الذئب:
بهم بني محاربٍ مزداره1 ... أطلس يخفى شخصه غباره
في شدقه شفرته وناره
قوله: " يخفي شخصه غباره"، يقول: هو في لون الغبار، فليس يتبين فيه. وقوله:" عسال"، فإنما نسبه إلى مشيته، يقال: مر الذئب يعسل، وهو مشيٌ خفيف كالهرولة، قال الشاعر2 يصف رمحاً:
لدنٌ بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
وقال لبيدٌ:
عسلان الذئب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل
قال أبو عبيدة: نسل في معنى عسل، وقال الله عز وجل: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} 3. وخفض بهذه الواو لأنها في معنى "رُبَّ"، وإنما جاز أن يخفض بها لوقوعها في معنى"رب" لأنها حرف خفض، وهي أعني الواو تكون بدلاً من الباء في القسم لأن مخرجها في مخرج الباء من الشفة، فإذا قلت: والله لأفعلن، فمعناه: أقسم بالله لأفعلن، فإن حذفتها قلت: الله لأفعلن، لأن الفعل يقع على الاسم فينصبه، والمعنى معنى"الباء" كما قال عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} 1. وصل الفعل فعمل، والمعنى معنى"من" لأنها للتبعيض، فقد صارت"الواو" تعمل بلفظها عمل "الباء"، وتكون في معناها، وتعمل عمل "رب" لاجتماعها في المعنى للاشتراك في المخرج.
وقوله: "رفعت لناري"، من القلوب، إنما أراد رفعت له ناري والكلام إذا لم يدخله لبسٌ جاز القلب للاختصلر، قال الله عز وجل: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} 2. والعصبة تنوء بالمفاتيح، أي تستقل بها في ثقلٍ، ومن كلام العرب: إن فلانة لتنوء بها عجيزاتها، والمعنى لتنوء بعجيزاتها، وأنشد أبو عبيدة للأخطل:
أما كليب بن يربوع فليس لها ... عند التفاخر إيرادٌ ولا صدر
مخلفون ويقضي الناس أمرهم ... وهم بغيبٍ وفي عمياء ما شعروا
مثل القنافذ هداجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
فجعل الفعل للبلدتين على السعة.
ويروى أن يونس بن حبيبٍ قال لأبي الحسن الكسائي: كيف تنشد بيت الفرزدق? فأنشده:
غداة أحلت لابن أصرم طعنةٌ ... حصين عبيطات السدائف والخمر3
فقال الكسائي لما قال:
"غداة أحلت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف.."
تم الكلام. فحمل الخمر على المعنى، أراد: وحلت له الخمر، فقال له يونس: ما أحسن ما قلت ولكن الفرزدق أنشدنيه على القلب، فنصب الطعنة ورفع العبيطات والخمر على ما وصفناه من القلب. والذي ذهب إليه الكسائي أحسن في محض العربية، وإن كان إنشاد الفرزدق جيداً.
وقوله: "لما دنا قلت ادن دونك" أمر بعد أمرٍ، وحسن ذلك لأن قوله: "أدن" للتقريب، وفي قوله: "دونك"،أمره بالأكل، كما قال جرير لعياش بن الزبرقان:
أعياش قد ذاق القيون مواسمي1 ... وأوقدت ناري فادن دونك فاصطل
وقوله:
على ضوء نارٍ مرة ودخان
يكون على وجهين: أحدهما على ضوء نار، وعلى دخانٍ أي على هاتين الحالتين ارتفعت النار أو خبت. وجائز أن يعطف الدخان على النار، وإن لم يكن للدخان ضياءٌ، ولكن للاشتراك كما قال الشاعر:
ياليت زوجك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحا
لأن معناها الحمل، وكما قال:
شراب ألبانٍ وتمرٍ وأقط
فأدخل التمر في المشروب لاشتراك المأكول والمشروب في الحلوق وهذه الآية تحمل على هذا: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} 2.
والشواظ: اللهب لا دخان له والنحاس: الدخان، وهو معطوف على النار، وهي مخفوضة بالشواظ لما ذكرت لك، قال النابغة الجعدي:
تضيء كمثل سراج الذبا ... ل لم يجعل الله فيه نحاسا
وقوله:
نكن مثل من يا د ئب يصطحبان3
فـ"من" تقع للواحد والاثنين والجميع والمؤنث على لفظ واحد، فإن شئت حملت خبرها على لفظها فقلت: من في الدار يحبك، عنيت جميعاً أو اثنين أو واحداً أو مؤنثاً، وإن شئت حملته على المعنى فقلت: يحبانك، وتحبك إذا عنيت امرأة ويحبونك إذا عنيت جميعاً كل ذلك جائز جيد، وقال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} 1. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} 2. وقال فحمل على المعنى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 3. وقرأ أبو عمرو: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} 4 فحمل الأول على اللفظ والثاني على المعنى. وفي القرآن: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} .
فهذا كله على اللفظ، ثم قال: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على المعنى.
وقوله: "أو شباة سنان" فالشبا والشباة واحد وهو الحد.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
1 يونيو 2024
تعليقات (0)