المنشورات
خطبة الحجاج حين قدم أميراٌ على العراق
قال: وحدثني التوزي في إسناد ذكره آخره عبد الملك بن عمير الليثي، قال: بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حالٍ حسنةٍ، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه، إذ أتى آتٍ فقال: هذا الحجاج قدم أميراٌ على العراق. فإذا به قد دخل المسجد معتماٌ بعمامة غطى بها أكثر وجهه، متقلداٌ سيفاً، متنكباٌ قوساٌ، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق حتى قال عمير بن ضابيء البرجمي: ألاأحصبه لكم? فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض وقال1:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال: يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوساٌ قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال2:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس برلعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على ظهر وضم
ثم قال:
قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
وقال:
قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وترٌ عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد
لابد مما ليس منه بد
إني والله يا أهل العراق، ما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين. ولقد فرزت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرها عوداً. وأصلبها مكسراً، فرماكم بي.
لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مراقدالضلال. والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. والخوف بما كانوا يصنعون. وإنى والله ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة. وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ:
"بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين سلامٌ عليكم" فلم يقل أحد منهم شيئاً، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس، فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين، فلم تردوا عليه شيئاً هذا أدب ابن نهية أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن. اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله: "سلامٌ عليكم"لم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام1.
ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبراً، فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابنٌ هو أقوى على الأسفار مني فتقلبه بدلاً مني. فقال الحجاج: نفعل أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل2: أتدري من هذا أيها الأمير? قال: لا قال: هذا عمير بن ضابئ البرمجي الذي يقول أبوه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل الشيخ على عثمان مقتولاٌ فوطىء بطنه، فكسر ضلعين من أضلاعه، فقال ردوه! فلما رد قال الحجاج: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلاٌ يوم الدار! إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحاٌ للمسلمين: يا حرسي، اضربن عنقه. فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل، ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي1:
تجهز فإما أن تزور ابن ضابىءٍ ... عميراٌ وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا2
فأضحى ولو كانت خراسان دونه3 ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
قوله: "أنا ابن جلا"، إنما يريد المنكشف الأمر، ولم يصرف "جلا" لأنه أرادالفعل فحكى، والفعل إذا كان فاعله مضمراٌ أو مظهراٌ لم يكن إلاحكاية، كقولك: تأبط شرأ، وكماقال الشاعر:
كذبتم وبيت الله لاتأخذونها ... بني شاب قرناها تصر وتحلب
وتقول: قرأت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 4 لأنك حكيت، وكذلك الابتداء، تقول: قرأت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وقال الشاعر:
والله ما زيد بنام صاحبه5
وقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
لسحيم بن الرياحي، وإنما قاله الحجاج متمثلاً.
وقوله: "وطلاع الثنايا" الثنايا: جمع ثنيةو الثنية: الطريق في الجبل.
والطريق في الرمل يقال له: الخل، وإنما أراد به أنه جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها، كما قال دريد بن الصمة يعني أخاه عبد الله:
كميش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بعيد من السوءات طلاع أنجد
والنجد: ما ارتفع من الأرض، وقد مضى تفسير هذا.
وقوله: "إني لأرى رؤوساٌ قد أينعت"، يريد أدركت، يقال: أينعت الثمرة إيناعاٌ وينعت ينعاٌ، ويقرأ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} 1 و {َيَنْعِهِ} كلاهما جائز.
قال أبو عبيدة: هذا الشعر يختلف فيه، فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية. [قال أبو الحسن: الصحيح أنه ليزيد يصف جارية] وهو:
ولها بالماطرين2 إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خرفة حتى إذا ربعت ... سكنت من جلقٍ بيعا3
في قباب حول دسكرةٍ ... حولها الزيتون قد ينعا
قال أبو الحسن: أول هذه الأبيات:
طال هذا الهم فاكتنعا ... وأمر النوم فامتنعا
وبعد هذا ما أنشد أبو العباس، ويروى" بالماطرون".
قال أبو العباس: وقوله:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم
يعني فرساٌ أو ناقة، والشعر للحطم القيسي.
وقوله:
قد لفها الليل بسواق حطم فهو الذي لا يبقي من السير شيئاٌ، ويقال: رجل حطمٌ للذي يأتي على الزاد لشدة أكله، ويقال للنار التي لا تبقي: حطمةٌ. وقوله: "على ظهر وضم"، فالوضم: كل ما قطع عليه اللحم. قال الشاعر1:
وفتيان صدقٍ حسان الوجو ... هـ لا يجدون لشيء ألم
من آل المغيرة لا يشهدو ... ن عند المجازر لحم الوضم
وقوله:
قد لفها الليل بعضلبي
أي شديد. وأروع. أي ذكي.
وقوله: "خراج من الدوي"، يقول: خراجٍ من كل غماء شديدة2:
ويقال للصحراء دوية، وهي التي لا تكاد تنقضي، وهي منسوبة إلى الدو، والدو: صحراء ملساء لاعلم بها ولا أمارة، قال الحطيئة3:
وأنى اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الليل بالدو يهتدي
والداوية: المتسعة التي تسمع لها دوياٌ بالليل، وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل تنفسح أصواتها فيها. وتقول جهلة الأعراب: إن ذلك عزيف الجن وقوله:
والقوس فيها وترعرد
فهو الشديد ويقال عرند في هذا المعنى.
وقوله:" إني والله ما يقعقع لي بالشنان"، واحدها شن، وهو الجلد اليابس، فإذا قعقع به نفرت الإبل منه، فضرب ذلك مثلاٌ لنفسه، وقال النابغة الذبياني:
كأنك من جمال بني أقيش4 ... يقعقع بين رجليه بشن
وقوله: "ولقد فررت عن ذكاء"، يعني تمام السن. والذكاء على ضربين:
أحدهما تمام السن، والآخر الحدة حدة القلب، فمما جاء في تمام السن قول قيس بن زهير: "جري المذكيات غلاب"1. وقال زهير:
يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء
وقوله: "فعجم عيدانها"، يقول: مضغها لينظر أيها أصلب، يقال: عجمت العود، إذا مضغته، وكذلك في كل شيء، قال النابغة:
فظل يعجم أعلى الروق منقبضاٌ ... في حالك اللون صدق غير ذي أود
والمصدر العجم، يقال عجمته عجماٌ: ويقال لنوى كل شيء: عجمٌ مفتوح، ومن أسكن فقد أخطاٌ، كما قال الأعشى:
وجذعانها كلقيط العجم2
وقوله: "طالما ما أوضعتم في الفتنة"، الإيضاع: ضرب من السير. وقوله:
فأضحى ولو كانت خراسان دونه
يعني دون السفر رآها مكان السوق للخوف والطاعة.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
1 يونيو 2024
تعليقات (0)