المنشورات

إسحاق بن خلف البهراتي يمدح علي بن عيسى القمى

ومما يستحسن من أشعار المحدثين قول إسحاق بن خلف البهراتي، ونسبه في بني حنيفة لسباء وقع عليه، يقول لعلي بن عيسى بن مريم بن موسى بن طلحة الأشعري المعروف بالقمي1:
وللكرد منك إذا زرتهم ... بكيدك يوم كيوم الحمل
ومازال عيسى بن موسى له ... مواهب غير النطاف المكل2
لسل السيوف وشق الصفوف ... لنقض الترات وضرب القلل
ولبس العجاجة والخافقات ... تريك المنا برؤوس الأسل
وقد كشرت عن شبا نابها ... عروس المنية بين الشعل
وجاءت تهادى وأبناؤها ... كأن عليهم شروق الطفل
خروسٌ نطوق إذا استنطقت ... جهول تطيش على من جهل
إذا خطبت أخذت مهرها ... رؤوساً تحادر قبل النقل
ألد إليه من المسمعات ... وحث الكؤوسه في يوم طل
وشرب المدام ومن يشتهيه ... معاط له بمزاح القبل
بعثنا النّواعج تحت الرحال ... تسافه أشدقها في الجدل
إذا ما حدين بمدح الأمير ... سبقن لحاظ المحثّ3 العجل
قوله: "تريك المنا" يريد المنايا وهذه كلمة تخف على ألسنتهم فيحذفونها، وزعم الأصمعي أنه سمع العرب تقول: درس المنا، يريدون المنازل، وجاء في التخفيف أعجب من هذا، حدثنا بعض أصحابنا عن الأصمعي وذكره سيبويه في كتابه ولم يذكر قائله، ولكن الأصمعي قال: كان أخوان متجاوران لا يكلم كل واحد منهما صاحبه سائر سنته حتى يأتي وقت الرعي. فيقول أحدهما لصاحبه: ألاتا? فيقول الآخر: بلى فا، يريد: ألا تنهض? فيقول الآخر، فأنهض. وحكى سيبويه في هذا الباب:

بالخير خيراتٍ وإن شراً فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا
يريد: وإن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تريد1.
وهذا خلاف ما تستعمله الحكماء، فإنه يقال: إن اللسان إذا كثرت حركته، رقت عذبته.
وحدثني أبو عثمان الجاحظ قال: قال لي محمد الجهم: لما كانت أيام الزّط أدمنت الفكر، وأمسكت عن القول، فأصابتني حبسةً في لساني.
وقال رجل من الأعراب يذكر آخر منهم:
كأن فيه لففاً إذا نطق ... من طوال تحبيسٍ وهم وأرق
وقال رجل لخالد بن صفوان: إنك لتكثر، فقال: أكثر لضربين: أحدهما فيما لاتغني فيه القلّة، والآخر لتمرين اللسان، فإن حبسه يورث العقلة.
وكان خالد يقول: لا تكون بليغاً حتى تكلم أمتك السوداء في الليلة الظلماء، في الحاجة المهمة، بما تكلم به في نادي قومك، فإنما اللسان عضوٌ إذا مرنته، مرن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تخشنها بالممارسة، والبدن الذي تقويه برفع الحجر وما أشبه، والرّجل إذا عودته المشي مشت.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم. فتزعم في القسي، نزوتم على طهور الخيل.
وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للعاقل إن يخلي نفسه من ثلاث في غير إفراط الأكل، والمشي، والجماع. فأما الأكل فإن الأمعاء تضيق لتركه، وكان ابن الزبير رحمه الله يواصل فيما ذكروا بين خمس عشرة من يوم وليلة، ثم يفطر على سمن وصبر ليفتق أمعاءه. قال أبو العباس: قال الأول: والمشي، إن لم تتعهده أوشكت ان تطلبه فلا تجده، والجماع كالبئر إن نزحت جمّت، وإن تركت تحيّر ماؤها، وحق هذا كله القصد.
وقوله:
كأن عليهم شروق الطفل يريد: تألق الحديد، كأنه شمس طالعة عليهم، وإن لم تكن شمس وأحسن من هذا قوله سلامه بن جندل:
كأن النّعام باض فوق رؤوسهم ... وأعينهم تحت الحديد جواحم1
فهذا التشبيه المصيب.
وأما قوله:
أحب إليه من المسمعات
فقد قال مثله القاسم بن عيسى بن إدريس أبو ذلف العجلي:
يوماي يوم في أويس كالدمى ... لهوي، ويوم في قتال الديلم
هذا حليف غلائل مكسوة ... مسكاً وصافية كنضح العندم
ولذاك خالصة الدروع وضمّرٌ ... يكسوننا رهج الغبار الأقتم
وليومهن الفضل لولا لذّة ... سبقت بطعن الدّيلميّ المعلم
وأول هذه القصيدة طريق مستملح، وهو:
طواه الهوى فطوى من عدل ... وحالف ذا الصبوة المختبل
وأما قوله:
تسافه أشداقها في الجدل
فتسافه من السفه، وإنما يصفها بالمرح، وانها تميل ذا كذا مرة، كما
قال رؤبة:
يمشي العرضنى في الحديد المتقن
وكما قال الآخر:
إذا رأى السوط مشى الهيدبى ... ويتقى الأرض بمعج رقاق2
وكما قال الحطيئة:
وإن آنست حسا من السوط عارضت ... بي الجور حتى تستقيم ضحى الغد
والجدل: جمع جديل وهو الزمام المجدول، كما تقول: قتيل ومقتول، وأدنى العدد أجدلة، كقولك: قضيب وقضب وأقضبة، وكذلك كثيب ورغيف وجريت، وفعلان في المثير، يقال قضبان ورغيفان وجربان، ومثل قوله:
تسافه أشداقها في الجدل
قول حبيب بن أوس الطائي:
سفيه الرمح جاهله إذا ما ... بدا فضل السفيه على الحليم
لإسحاق أيضاُ يمدح الحسن بن سهل
ومما يستحسن من شعر إسحاق هذا قوله في الحسن بن سهل:
باب الأمير عراء ما به أحد ... إلا امرؤ واضع كفا على ذقن
قالت وقد أملت ما كنت آمله ... هذا الأمير ابن سهل حاتم اليمن
كفيتك الناس لا تلقى أخا طلب ... بفيء دارك يستعدي على الزمن
إن الرجاء الذي قد كنت آمله ... وضعته ورجاء الناس في كفن
في الله منه وجدوى كفه خلفٌ ... ليس السدى والندى في راحة الحسن
وإسحاق هذا هو الذي يقول في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذر الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
وإسحاق هذا هو الذي يقول في مدح العربية:
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرة تكرمه إذا يلحن
وإذا طلبت من العلوم اجلها ... فاجلها منها مقيم الألسن
قال أبو العباس: واحسبه أخذ قوله:
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
من حديث حدثناه أبو عثمان الخز اعي عن الأصمعي قال: كان يقال: ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم: رجل رأيته راكباً، أو سمعته يعرب،أو شممت منه طيباً. وثلاثة يحكم عليهم بالاستصغار حتى يدرى من هم. وهم: بالفارسية، أو رجل رأيته على ظهر طريق ينازع في القدر.












مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید