المنشورات
شعر ذي الرمة في بلال
قال أبو العباس: وكان بلال داهيةً لقناً أدبياً، ويقال: إن ذا الرّمة لمّا أنشده:
سمعت، النّاس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالاً
تناخي عند خير فتى يمانٍ ... إذا النّكباء ناوحت الشّمالاً
فلما سمع قوله:
فقلت لصيدح انتجعي بلالا
قال: يا غلام، مر لها بقتّ ونوىّ، أراد أن ذا الرّمّة لايحسن المدح.
قوله: "سمعت الناس ينتجعون" حكاية، والمعنى إذا حقّق إنما هو سمعت هذه اللفظة، أي قائلاً يقول: "الناس ينتجعون غيثاً"، ومثل هذا قوله:
وجدنا في كتاب بني تميمٍ ... أحقّ الخيل بالرّكض المعار
فمعناه: وجدناه هذه اللفظة مكتوبة، فقوله: "أحق الخيل" ابتداء، "والمعار" خبره، وكذلك "الناس" ابتداء، و"ينتجعون" خبره. ومثل هذا في الكلام: قرأت "الحمد لله رب العالمين"، إنما حكيت ما قرأت، وكذلك قرأت على خاتمه "الله أكبر" يا فتى، فهذا لا يجوز سواه.
وقوله: "إذا النكباء ناحت الشّمالا" فإن الرياح أربع، ونكباواتها أربع، وهي الريح التي تأتي من بين ريحين فتكون بين الّمال والصّبا، أو الشّمال والدّبور، أو الجنوب والدّبور، أو الجنوب والصّبا، فإذا كانت النّكباء تناوح الشمال فهي آية الشتاء. ومعنى "تناوح" تقابل، يقال: تناوح الشجر إذا قابل بعضه بعضاً، وزعم الأصمعي أن النائحة بهذا سمّيت، لأنها تقابل صاحبتها.
وقال يحيى بن نوفل الحميريّ - ويقال إنه لم يمدح أحداً قط:
فلو كنت ممتدحاً للنّوال ... فتى لامتدحت عليه بلالاً
ولكنّني لست ممّن يريد ... بمدح الرّجال الكرام السّؤالا
سيكفي الكريم إخاء الكريم ... ويقنع بالود منه نوالا
ومن احسن ما امتدح به ذو الرّمة بلالا، قوله:
تقول عجوزٌ مدرجي متروّحاً ... على بيتها من عند أهلي وغاديا
اذو زوجةٍ بالمصر أم ذو خصومةٍ ... أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقلت لها: لا عن أهلي لجيرةٌ ... لأكثبة الدّهنا جميعاً وماليا1
وما كنت مذ أبصرتني في خصومة ... أرجع فيها يا ابنة الخير قاضي
ولكنّني أقبلت من جانبي قساٌ ... أزور فتى نجداً كريماً يمانيا
من آل أبي موسى عليه مهابةٌ ... تفادي أسود الغاب منه تفاديا
مرمّين من ليثٍ عليه مهابة ... تفادي أسود الغاب منه تفاديا
وما الخرق منه يرهبون ولا الخنى ... عليهم ولكن هيبةٌ هي ماهيا
وقوله: "مدرجي" يقول: مروري، فأما قولهم في المثل: خير من دبّ ومن درج، فمعناه: منحيي ومن مات، يريدون: من دب على وجه الأرض ومن درج منها فذهب.
وقوله:
أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فإنه في هذا المعنى: ثوى الرجل فهو ثاوٍ، يا فتى، إذا أقام، وهي أكثر، ويقال: أثوى فهو فهو مثوٍ يا فتى، وهي أقل من تلك، قال الأعشى:
أثوى وقصر ليلةً ليزوّدا ... فمضى وأخلف من قتيله موعداً
وقوله: "قسا" فهو موضع من بلاد بني تميم. وقوله: "لأكثبة الدهنا"، فأكثبةٌ جمع كثب، وهو أقل العدد، والكثير كثبانٌ والدّهنا من بلادي بني تميم، ولم أسمع إلا القصر من أهل العلم والعرب، وسمعت بعد من يروي مدّها ولا أعلافه, قال ذو الرمة:
حنّت إلى نعم الدّهنا فقلت لها ... أمي هلالاً على التوفيق والرّشد
يعني هلال بن أحوز المازني، وقال جرير:
بازٍ يصعصع بالدّهنا قطاً جونا
وقوله:
كأنهم الكروان أبصرن بازيا.
فالكروان جماعة كروانٍ، وهو طائر معروف، وليس هذا الجمع لهذا الاسم بكماله، ولكنه على حذف الزيادة، فالتقدير: كراً وكروانٌ، كما تقول: أخٌ وإخوانٌ وورلٌ وورلانٌ، وبرق وبرقانٌ، والبرق أعجمي ولكنه قد أعرب وجمع كما تجمع العربية، واستعمل الكروان جمعاً على حذف الزيادة، واستعمل في الواحد كذلك، تقول العرب في مثلٍ من أمثالها:
أطرق كرا أطرق كرا ... إنّ النّعام في القرى
يريدون الكروان.
وقوله:
من آل أبي موسى ترى القوم حوله
فقال: ترى، ولم يقل ترين، وكانت المخاطبة أولاً لامرأة، ألا تراه يقول:
ومما كنت مذ أبصرتني في خصومةٍ ... أراجع فيهالا يا ابنة الخير قاضياً
ثم حوّل المخاطبة إلى رجل، والعرب تفعل ذلك، قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 1، فكأن التقدير والله اعلم كان للناس، ثم حولت المخاطبة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال عنترة بن شدّاد:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت ... عسراً عليّ طلابك ابنة مخرم
وقال جرير:
ما للمنازل لا تجيب حزننا ... أصممن قدم المدى قبلينا
وترى العواذل يبتدرن ملامتي ... وإذا اردن هواك عصينا
قال أولاً لرجل، ثم قال: سوى هوالك. وقال آخر:
فدى لك والدي وسراة قومي ... ومالي إنه منه أتاني
على تحويل المخاطبة.
وقوله: "مرمّين"، يريد سكوتاً مطرقين، بقال: أرم إذا أطرق ساكتاً.
وقوله: "تفادى أسود الغاب" معناه تفتدي منه بعضها ببعض. الخبر أن سليمان بن عبد الملك أمر بدفع عيال الحجاج ولحمته إلى يزيد بن المهلب فتفادى منهم، تأويله: فدى نفسه من ذلك المقام بغيره. وقوله:
وما الخرق منه يرهبون ولا الخنى ... عليهم ولكن هيبة هي ماهيا
إذا رفعت "هيبة" فالمعنى: ولكن أمره هيبةٌ، كما قال الله عز وجل: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} 2، أي ذلك بلاغ، ومثله قوله عزّ وجل:
{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} 1، يكون رفعة على ضربين، أحدهما أمرنا طاعة وقول معروف، والوجه الآخر طاعةٌ وقولٌ معروف أمثل. ومن نصب هيبة أراد المصدر، أي ولكن يهاب هيبةً.
وأحسن ما قيل في هذا المعنى:
يغضي حياءً ويغضي من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم
وقال الفرزدق، يعني يزيد بن المهلب:
وإذا الرّجال رأوا بزيد رأيتهم ... خضع الرّقاب نواكس الأبصار
وفي هذا البيت شيء من يستطرفه النحويون، وهو أنهم لا يجمعون ما كان من فاعل نعتاً على فواعل، لئلا يلتبس بالمؤنث، لا يقولون: ضارب وضوارب، وقاتل وقواتل، لأنهم يقولون في جمع ضاربة: ضوارب، وقاتلة: قواتل، ولم يأت ذلك إلا في حرفين: إحداهما في جمع فارس: فوارس، لأن هذا مما لا يستعمل في النساء فأمنوا الالتباس، ويقولون في المثل: هو هالك في الهوالك، فاجروه على اصله فقال: "نواكس الأبصار"، ولا يكون مثل هذا أبداً إلا في ضرورة.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
1 يونيو 2024
تعليقات (0)