المنشورات
فرزدق يهجو جريراً وجواب جرير عليه
فلما هجا الفرزدق قيساً في أمر قتيبة بن مسلم الباهلي، قال:
أتاني وأهلي بالمدينة وقعةٌ ... لآل تميم أقعدت كلّ قائم
كأن رؤوس النّاس إذا سمعوا بها ... مشدّخةٌ هاماتها بالأمائم1
وما بين من لم يعط سمعاً وطاعةً ... وبين تميم غير حرّ الحلاقم
أتغضب عن أذنا قتيبة حزّنا ... جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم
وما منهما غلا نقلنا دماغه ... إلى الشّام فوق الشّاحجات الرّواسم
تذبذب في المخلاة تحت بطونها ... محذّفة الأذناب جلح المقادم2
وما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في الرؤوس الأعاظم
تخوّفنا أيام قيسٍ ولم تدع ... لعيلان أنفا مستقيم الخياشم
لقد شهدت قيسٌ فما كان نصرها ... قتيبة إلاّ عضّها بالأباهم3
وقال جرير يجيبه:
أباهل ما أحببت قتل ابن مسلم ... ولا أن تروعوا قومكم بالمظالم
ثم قال يخوّف الفرزدق:
تحضّض يا ابن القين قيسا ليجعلوا ... لقومك يوماُ مثل يوم الأراقم1
كأنك لم تشهد لقيطاً وحاجباً ... وعمرو بن عمروٍ إذ دعوا يا ل دارم
ولم تشهد الجونين والشّعث ذا الصّفا ... وشدات قيس يوم دير الجماجم
فيوم الصّفا كنتم عبيداً لعامر ... وبالحنو أصبحتم عبيد اللهازم
إذا عدّت الأيام أخزين دراماً ... وتخزيك يا أبن القين أيام دارم
أما قول الفرزدق:
كأن رءوس النّاس إذ سمعوا بها ... مشدّخةٌ هاماتها بالأمائم
فإن الشّجاع مختلفة الحكام، فإذا كانت الشّجّة شقيقا يدمى فهي الدامية، وإذا أخذت من اللحم شيئاً فهي الباضعة، وإذا أمضت في اللحم فهي المتلاحمة، فإذا هشمت العظم فهي الهاشمة، وإذا كان بينها وبين العظم جليدةٌ رقيقة فهي السمحاق، من أجل تلك الجليدة يقال ما على ترب الشاة من الشّحم إلا سماحيق، أي طرائق، فإذا خرجت منها عظام صغار فهي المنقّلة وإنذما أخذ ذلك من النّقل وهي الحجارة الصغار فإذا أوضحت عن العظم فهي الموضحة، فإذا خرقت العظم وبلغت أمّ الدّماغ وهي جليدةٌ قد ألبست الدماغ فهي الآمّة، وبعض العرب يسميها أمّ المأمومة، واشتقاق ذلك إفضاؤها إلى أم الدماغ ولا غاية بعدها، قال الشاعر:
يحج مأمومة في قعرها لجفٌ ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد2
وقال ابن غلفاء الهجيميّ يردّ بن عمرو بن الصعق في هجائه بني تميم:
فإنك من هجاء بني تميم ... كمزداد الغرام إلى الغرام
هم تركوك أسلح من حبارى1 ... رأت صقراً وأشرد من نعام
وهم ضربوك امّ الرّأس حتى ... بدت أمّ الشّئون من العظام2
إذا يأسونها جشأت إليهم3 ... شرنبثة القوائم أم هام4
وابن خازم هو عبد الله بن خازم السّلميّ، وهو أحد غربان العرب في الإسلام، وكان من أشجع الناس، وقلته بنو تميم بخرسان، وكان الذي ولي قتله منهم وكيع بن الدّورقيّة القريعيّ. وقوله: فوق الشاحجات، يعني البغال. والرّسيم: ضرب من السير، وإنما عنى ههنا بغال البريد، لقوله:
محذّفة الأذناب جلح المقادم
كما قال امرؤ القيس:
على كل مقصوص الذّنابى معاودٍ ... بريد السّرى باللّيل من خيل بربرا5
وكانت برد ملوك العرب في الجاهلية الخيل.
أما قول جرير: "الجونين"، فقد مضى ذكرهما، ويوم "دير الجماجم"، يريد الحجّاج في وقعته بدير الجماجم بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ، وقوله:
وبالحنو أصبحتم عبيد اللهازم
فاللهازم بنو قيس بن ثغلبة، وبنو ذهل بن ثعلبة، وبنو تيم اللآت بن ثعلبة، وبنو عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وبنو مازن بن صعب بن علي، ثم تلهزمت حنيفة لجيم فصارت معهم، وأما علقمة بن زرارة فإنه قتله بنو ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقتل به حاجب أخوه أشيم بن شراحيل القيسيّ، فقال ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقتل به حاجبٌ أخوه أشيم بن شراحيل القيسيّ، فقال حاجبٌ في ذلك:
فإن تقتلوا منا كريما فإنّنا ... أبأنا به مأوى الصّعاليك أشيما
قتلنا به خير الضبيعات كلها ... ضبيعة قيس لا ضبيعة أضجما
وكان يقال لأشيم: مأوى الصعاليك، وضبيعة أضجم الذي ذكر هو ضبيعة ابن ربيعة بن نزار رهط المتلمّس. هذا لقبهم.
وأما معبد بن زرارة فإن قيساً أسرته يوم رحرحان، فساروا به إلى الحجاز فأتى لقيطٌ في بعض الأشهر الحرم ليفديه، فطلبوا منه ألف بعير فقال لقيط: إنّ أبانا أمرنا ألا نزيد على المائتين، فتطمع فينا ذؤبان العرب، فقال معبد: يا أخي، افدني بمالي فإني ميتٌ. فأبى لقيطٌ، وأبى معبد أن يأكل أو يشرب، فكانوا يشحون فاه، ويصبّون فيه الطعام والشراب لئلا يهلك فيذهب فداؤه، فلم يزل كذلك حتى مات، فقال جرير يعيّر الفرزدق وقومه بذلك:
تركتم بوادي رحرحان نساءكم ... ويم الصّفا لاقيتم الشعب أوعرا
سمعتم بني مجدٍ دعوا يا ل عامر ... فكنتم نعاماً عند ذاك منقّرا
وأسلمت القلحاء في الغل معبداً ... ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا
قوله:
سمعتم بني مجدٍ دعوا يا ل عامرٍ
يعني مجد بنت النضر بن كنانة ولدت ربيعة بن عامر بن صعصعة، وولده بنو كلاب وبنو كعب بن عامر بن ربيعة. والقلحاء لقب، والقلح ان تركب الأسنان صفرةٌ تضرب إلى السواد، ويقال لها الحبرة لشدة تأثيرها، أنشدني المازني:
لست بسعديّ على فيه حبرةٌ ... ولست بعبدي حقيبته التّمر
وزعم أبو الحسن الأخفش1، أن العرب تقول في هذا المعنى: "في أسنانه حبرة"، وليس ذلك بمعروف، ولم يأت اسم على "فعل" إلا إبل وإطل.2
وقوله:
ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا
يقال: قطّره لجنبيه وقتّره، لغتان، لأن التاء من مخرج الطاء، فإن رمى به على قفاه قيل: سلقه وسلقاه وبطحه لوجهه. فإن رمى به على رأسه قيل نكته.
رجع التفسير إلى شعر الفرزدق الأول:
أما قوله:
ومنا الذي منع الوائدات
فإنه يعني جدّه صعصعة بن ناجية بن عقالٍ، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات، ولم يكن هذا في جميعها إنما كان في تميم بن مرّة ثم استفاض في جيرانهم، فهذا قول واحد. وقال قوم آخرون: بل كان في تيم وقيس وأسدٍ وهذيل وبكر بن وائل، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف". وقال بعض الرواة: "اشدد وطدتك"، والمعنى قريب يرجع إلى الثّقل، فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم، فكانوا يسمونه العلهز، ولهذا أبان الله عز وجل تحريم الدم، ودلّ على ما من أجله قتلوا البنات فقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} 1، وقال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} 2، فهذا خبيرٌ بيّن ان ذلك للحاجة، وقد روى بعضهم أنهم غنما فعلوا ذلك أنفةً.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
1 يونيو 2024
تعليقات (0)