المنشورات

موت ابن الحجاج وأخيه

وكان الحجاج رأى في منامه ان عينيه قلعتا، فطلّق الهندين: هنداً بنت المهلّب، وهنداً بنت أسماء بن خارجة، فلم يلبث ان جاءه نعيّ أخيه من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمدٌ، فقال: هذا والله تأويل رؤياي، ثم قال: إنّا لله وإن إليه راجعون! محمّدٌ ومحمّدٌ في يوم واحدٍ!
حسبي بقاء الله من كلّ ميّت ... وحسبي رجاء الله من كلّ هالك
إذا كان ربّ العرش عنّي راضياً ... فإن شفاء النفس فيما هنالك1
وقال: من يقول شعراً يسليني به? فقال الفرزدق:
إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلهما ... فقدان مثل محمدٍ ومحمد
ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد
فقال: لو زدتني! فقال الفرزدق:
إنّي لباكٍ على ابني يوسف جزعاً ... ومثل فقدهما للدّين يبكيني
ما سدّ حيٌّ ولا ميتٌ مسدّهما ... إلا الخلائف من بعد النّبيّين
فقال له: ما صنعت شيئاً، إنما زدت في حزني، فقال الفرزدق:
لئن جزع الحجّاج ما من مصيبةٍ ... تكون لمحزونٍ أجلّ وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم ... جناحيه لمّا فارقاه فودّعا
أخ كان أغنى أيمن الأرض كلّه ... وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا
جناحا عقاب فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا
فقال: الآن.
أما قوله: "إلا الخلائف من بعد النّبيين"، فخفض هذه النون، وهي نون الجمع، وإنما فعل ذلك لنه جعل الإعراب فيها لا فيما قبلها، وجعل هذا الجمع كسائر الجمع، نحو أفلس، ومساجد. وكلاب، فإن إعراب هذا كإعراب الواحد، وإنما جاز ذلك لأن الجمع يكون على أبنية شتّى، وإنما يلحق منه بمنهاج التثنية ما لاختلاف معانيه، ما كان على حد التثنية لا يكسّر الواحد عن بنائه، وإلاّ فلا، فإنّ الجمع كالواحد، لاختلاف معانيه، كما تختلف معاني الواحد، والتثنية ليست كذلك، لأنه ضربٌ واحدٌ، ولا يكون اثنان اكثر مت اثنين عدداً، كما يكون الجمع أكثر من الجمع، فمما جاء على هذا المذهب قولهم: هذه سنينٌ، فاعلم، وهذه عشرينٌ فاعلم، قال العدوانيّ:
إنّي أبيٌّ ذو محافظةٍ ... وابن أبي من أبيّين
وأنتم معشرٌ زيدٌ على مائةٍ ... فأجمعوا كيدهم طرّاً فكيدوني
وقال سحيم بن وثيل:
وماذا يدّري الشعراء منّي ... أخو خمسين مجتمعٌ أشدّي
وقد جاوزت حدّ الأربعين ... ونجّذني مداورة الشّؤون
وفي كتاب الله عز وجل: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} 1.
فإن قال قائل: فإن "غسلينا" واحدٌ، فإنه كلّ ما كان على بناء الجمع من الواحد فإعرابه كإعراب الجمع، ألا ترى انّ "عشرين" ليس لها واحد من لفظها، وإعرابها كإعراب "مسلمين" واحدهم "مسلمٌ"! وكذلك جميع الإعراب. وتقول: "هذه فلسطون" يافتى، و"رأيت فلسطين" يافتى، هذا القول الأجود وكذلك "يبرين" وفي الرفع "يبرون" يافتى، وكلّ ما أشبه هذا فهو بمنزلته، تقول: "قنّسرون"، و"رأيت قنسرين"، والأجود في هذا البيت1:
وشاهدنا الجلّ والياسمو ... ن والمسمعات بقضّابها2
وفي القرآن ما يصدق ذلك قول الله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} 3، فمن قال: "هذه قنّسرون ويبرون". فنسب إلى واحد منهما رجلاً أو شيئاً قال: "هذا رجل قنّسريّ ويبريّ"، بحذف النون والواو، لمجيء حرفي النّسب، ولو أثبتهما لكان في الاسم رفعان ونصبان وجرّان، لأن الياء مرفوعةٌ، والواو علامة الرفع. ومن قال: "قنّسرين" كما ترى قال في النّسب: "قنّسرينّي" لأن الإعراب في حرف النّسب، وانكسرت النون كما ينكسر كلّ ما لحقه النّسب.
وأما قوله: "ونجّذني مداورة الشّؤون"، فمعناه: فهّمني وعرّفني، كما يقال: حنّكته التّجارب، والناجذ: آخر الأضراس، ذلك قولهم: ضحك حتى بدت نواجذه. والشؤون: جمع "شأن" مهموز، وهو الأمر.
وقال المفسرون من أهل الفقه وأهل اللغة في قول الله تبارك وتعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} هو غسالة أهل النار. وقال النحويّون: هو "فعلينٌ" من الغسالة.













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید