المنشورات

جرير يمدح هشام بن عبد الملك

وأما قول جريرٍ لهشام بن عبد الملك فهو المدح الصحيح على خلاف هذا المعنى، قال:
وأنت إذا نظرت إلى هشام ... عرفت نجار منتخب كريم
وليّ الحقّ حين يؤم حجّا ... صفوفاً بين زمزم والحطيم
يرى للمسلمين عليه حقاً ... كفعل الوالد الرّؤف الرّحيم
إذا بعض السّنين تعرّقتنا1 ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
وفي هذا الشعر:
أمير المؤمنين على صراطٍ ... إذا أعوجّ الموارد مستقيم
أمير المؤمنين جمعت ديناً ... وحلماً فاضلا لذوي الحلوم
لك المتخيّران أبا وخالاً ... فأكرم بالخؤولة والعموم
فيا ابن المطعمين إذا شتونا ... ويا ابن الذّائدين عن الحريم
سما بك خالدٌ وبنو هشامٍ ... إلى العلياء في الحسب الجسيم2
وتنزل من أمية حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصميم
تواصلت من تكرّمها قريشٌ ... برد الخيل دامية الكلوم
فما الأم التي ولدت قريشاً ... بمقرفة النّجار ولا عقيم
وما فحلٌ بأنجب من أبيكم ... ولا خالٌ بأكرم من تميم
سما أولاد برّة بنت مرّ ... إلى العلياء في الحسب العظيم
لك الغرّ السّوابق من قريش ... فقد عرف الأغرّ من البهيم
قوله: "حين يؤم حجّاً" فيكون الحجّ جمع حاجّ، كما يقال: تاجرٌ وتجرٌ، وراكبٌ وركبٌ، قال العجّاج:
بواسطٍ أكرم دارٍ دارا ... والله سمّى نصرك الأنصارا
فأخرجه على "ناصر ونصر"، قال: ويجوز أن يكون حجّ أصحاب حجّ، كما قال الله عزّ وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 3، يريد أهلها.
وقوله:
كفعل الوالد الرّوف الرّحيم
يقال: "رؤف" على "فعلٍ" مثل يقظ وحذر، رؤوف على وزن "ضروب". وقال الأنصاري4:
نطيع نبيّنا ونطيع رباً ... هو الرّحمن كان بنا رؤوفا
وقد قرىء: {واللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1، و {رَؤُوفٌ} أكثر، وإنما هو من الرّأفة، وهي أشدّ الرّحمة، ويقال: "رآفةٌ" وقرىء: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} 2، على وزن الصّرامة والسّفاهة.
وقوله:
إذا بعض السّنين تعرّ قتنا
يفسر على وجهين: أحداهما: ان يكون ذهب إلى بعض السنين سنون، كما قال الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم
لأن صدر القناة قناةٌ، ومن كلام العرب: ذهبت بعض أصابعه، لأن بعض الأصابع إصبع، فهذا قول.
والأجود أن يكون الخبر في المعنى عن المضاف إليه، فأقتحم المضاف إليه توكيداً، لأنه غير خارج من المعنى، وفي كتاب الله عزّ وجل: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 3 إنما المعنى: فظلّوا لها خاضعين، والخضوع بيّن في الأعناق، فأخبر عنهم، فأقحم العناق توكيداٌ. وكان أبو زيد الأنصاريّ يقول: أعناقهم جماعاتهم، تقول: أتاني عنقٌ من النّاس، والأول قول عامّة النحويين. وقال جرير:
لما أتَى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ ... سورُ المدينةِ والجبالُ الخشعُ
وقال أيضاَ:
رأت مرَّ السنينَ أخذن مِنِّي ... كما أخذ السرارُ من الهلالِ
وقال ذو الرمة:
مشينَ كما اهتزت رِماح تسفهت ... أعاليها مرُّ الرياح النواسم4
ومثل هذا كثير، وعلى مثل هذا القول الثاني تقول: "يا تيم تيم عدي" لأنك أردت: "يا تيم عدي"، وأقحمت الأول توكيدً1، وكذلك: لا أبا لك، لأن الألف لا تثبت في الأب في النصب إلا في الإضافة، أولا بدلاً من التنوين، فإنما أراد لا أباك ثم اقحم اللام توكيداً للإضافة، وأنشد المازني:
وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلدُ!
وقال آخر:
أبا لموت الذي لا بد أني ... ملاقٍ لا أباك تخوفيني!
وقوله: "على صراط" فالصراط: المنهاج الواضح، وكذلك قالت العلماء في قول الله عزّ وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
وقوله: "سما بكَ خالدٌ" يريد خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرة بن كعب، لأن أم هشام بنتُ هشام بن إسماعيل ابن هشام بن المغيرة، بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وكان هشام بن المغيرة أجل قرشي حالماً وجوداً، وكانت قريش تؤرخ بموته، كما كانت تؤرخ بعام الفيل، وبملكِ فلانٍ، قال الشاعر:
زمان تناعى الناس موت هشام
ومن أجل يقول القائل:
فأصبح بطن مكة مقشعراً ... كأنَّ الأرض ليس بها هشامُ
يقول: هو وإن كان مات فهو مدفون في الأرض، فقد كان يحب من أجله ألا ينالها جدب، وقال الآخر:
ذريني أصطبح يا سلم إني ... رأيت الموت نقب عن هشام
وقوله: "نقب" أي طوف حتى أصاب هشاماً، قال الله عز وجل: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} أي طوفوا، ومثله قول امرئ القيس"
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید