المنشورات

أفصح الناس

وحدّثني من لا أحصي من أصحابنا عن الأصمعي عن شعبة عن قتادة، قال: قال معاوية يوماً: من أفصح الناس? فقام رجل من السماط فقال: قوم تباعدوا عن فراتية العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. فقال له معاوية: من أولئك? فقال: قومي يا أمير المؤمنين، فقال له معاوية: من أنت? قال: أنا رجل من جرم. قال الأصمعي: وجرم من فصحاء الناس.
قوله: "تيامنوا عن كشكشة تميم"، فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شيئاً، لقرب الشين من الكاف في المخرج، وأنها مهموسة مثلها، فأرادوا البيان في الموقف، لأن في الشين تفشياً، فيقولون للمرأة: جعل الله لك البركة في دارش، ويحك مالش، والتي يدرجونها يدعونها كافاً، والتي يقفون عليها يبدلونها شيناً.
وأما بكر فتخلف في الكسكسة، فقوم منهم يبدلون حركة كاف المؤنث في الوقف بالسين، فيزيدونها بعدها، فيقولون: أعطيتكس.
أما الغمغمة فما ذكرت لك.
وقال الهارب1 لامرأته يوم الخندقة، وذاك أنها نظرت إليه يحد حربة في يوم فتح مكة، فقالت: ما تصنع بهذه? قال: أعددتها لمحمد وأصحابه؛ فقالت: والله إن أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، فقال لها: إني لأرجو أن أخدمك بعضهم؛ وأنشأ يقول:
إن تقبلوا فما بي علة ... هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة
الألة: الحربة، والغرار ههنا: الحد، يعني "بذي غرارين" السيف.
فلما لقيهم خالد يوم الخندقة انهزم الرجل، فلامته امرأته، فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندقة ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
ولحقتنا بالسيوف المسلمه ... يفلقن كل ساعد وجمجمه
ضرباً ولا تسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت2 حولنا وجمجمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه وأما الطمطمانية، ففيها يقول عنترة:
تبري له حول النعام كأنها ... حزق يمانية لأعجم طمطم
وكان صهيب أبو يحيى صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرتضخ لكنة رومية، ويذكرون أن نسبه في النمر بن قاسط صحيح.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة".
وقال عمر لصهيب في قوله: إنه من النمر بن قاسط: قد سمعت ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن انتمى إلى غير نسبه، فقال صهيب: أنا من القوم، ولكن وقع علي سباء.
وكان عبد بني الحسحاس يرتضخ لكنة حبشية، فلما أنشد عمر بن الخطاب:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال عمر: لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، فقال: ما سعرت، يريد: ما شعرت.
وكان عبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية، وإنما أتته من قبل زوج أمه شيرويه الإسواري.
ويقال: إن علياً عليه السلام عاد زياداً في منزل شيرويه، فقال عبيد الله يوماً لرجل كلمه فظن به رأي الخوارج1: أهروري منذ اليومِ? يريد: أحروري، وهذه الهاء تشترك في قلبها من الحاء أصنافٌ من العجم.
وكان زيادٌ الأعجم - وهو رجلٌ من عبد القيس - يرتضخ لكنةً أعجمية، يذهب فيها إلى مذهب قوم بأعيانهم من العجم.
وأنشد المهلب بن أبي صفرة في مدحه إياه:
فتى زاده السلتان في المدح رغبةً ... إذا غير السلتان كل خليلِ
يريد السلطان، وذلك أن بين التاء والطاء نسباً، فلذلك قلبها تاءً، لأن التاء من مخرج الطاء فقال: السلتان.
أما الغنة، فتستحسن من الجارية الحديثة السن، لأنها ما لم تفرط تميل إلى ضربٍ من النغمة، قال ابن الرقاع العاملي يصف الظبية وولدها:
تزجي أغن كأن إبرةَ روقهِ ... قلمٌ أصاب من الدواةِ مدادها












مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید