المنشورات

قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:

قال لي صاحبي ليعلم ما بي ... أتحب القتول أختَ الربابِ?
قلت: وجدي بها كوجدك بالما ... ء إذا ما منعت برد الشرابِ
من رسولي إلى الثريا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ
سلبتني مجاجة المسك عقلي ... فسلوها بما تحل اغتصابي1?
أزهتقت أم نوفلٍ إذ دعتها ... مهجتي، ما لقاتلي من متابِ
حين قالت لها أجيبي فقالت ... من دعاني? قالت أبو الخطابِ
فاستجابت عند الدعاء كما لبى ... رجالٌ يرجون حسن الثوابِ
أبرزوها مثل المهاةِ تهادى ... بين خمس كواعبٍ أترابِ
وهي مكنونةٌ تحير منها ... في أديم الخدين ماءُ الشبابِ
ثم قالوا: تحبها? قلت: بهراً ... عدد النجم والحصى والترابِ
دميةٌ عند راهبٍ ذي اجتهادٍ ... صوروها في جانب المحرابِ
قوله:
قلت وجدي بها كوجدكَ بالماء
معنى صحيح، وقد اعتوره الشعراءُ، وكلهم أجادَ فيه.
وقوله:
إذا ما منعت برد الشرابِ
يريد: عند الحاجة، وبذلك صح المعنى. ويورى عن علي بن أبي طالب رحمه الله أن سائلاً سأله، فقال: كيف كان حبكم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقال: كان واللهِ أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ. وقال آخر - وأحسبه قيس بن ذريحٍ:
حلفت لها بالمعشرين وزمزمِ ... وذو العرش فوق المقسمين رقيبُ2
[قال أبو الحسن: ويروى: والله فوق المقسمين، وهو أحب إليَّ] .
لئن كان بردُ الماء حرانَ صادياً ... إلي حبيباً إنها لحبيبُ
وقال القطامي:
يقتلنا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه بادي
فن ينبذن من قولٍ يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلةِ الصادي
والقول فيه كثير.
وقوله:
ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ1
قوله: "والكتابِ" قسمٌ.
وقوله:
أزهقت أم نوفلٍ إذ دعتها مهجتي
وقوله: تأويله: أبطلت وأذهبت، قال الله جل وعزَّ: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} 2 الأنبياء؛ 18؛ وللزاهق موضع آخرُ، وهو السمين المفرطُ، قال زهيرٌ:
القائدُ الخيل منكوباً دوابرها ... منها الشنونُ ومنها الزاهقُ الزهِمُ3
وقوله: "ما لقاتلي من متاب" يقول: من توبةٍ، والمصدر إذا كان بزيادة الميم من فعلَ يفعلُ فهو على مفعلٍ قال الله جل وعز: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} 4 وأما قوله جل ذكره: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} 5 فيكون على ضربين، يكون مصدراً، ويكون جماعاً. فالمصدر قولك: تاب يتوب توباً، كقولك: قال يقولو قولاً، والجمع توبةٌ وتوبٌ، مثل تمرةٍ وتمر، وجمرةٍ وجمرْ.
وقوله:
أبرزوها مثلَ المهاةِ تهادى
المهاةُ، البقرةُ في هذا الموضعِ، وتشبه المرأة بالبقرة من الوحش لحسن عينيها ولمشيتها، والبقرةُ يقال لها: العيناءُ، والجماعُ العينُ، وكذلك يقالُ للمرأةِ. وتكون المهاةُ البلورة في غير هذا الموضعِ.
وقوله: "تهادى" يريدُ: يهدي بعضها بعضاً في مشيتها، ومشية البقرةِ تستحسنُ، قال ابن أبي ربيعةَ:
أبصرتها ليلة ونسوتها ... يمشين بين المقامِ والحجرِ
يمشين في الريط والمروط كما ... تمشي الهويني سواكنُ البقرِ
وقوله: "كواعب" الواحدةُ كاعبٌ، وهي التي قد كعب ثدياها للنهود. أترابٌ: أقرانٌ، ويقال: تربُ فلانٍ.
والممكورة: المكتنزة.
وقوله:
ثم قالوا تحبها قلتُ بهراً
قال قوم: أراد بقوله: تحبها الستفهام، كما قال امرؤ القيس:
أحارِترى برقاً أريكَ وميضهُ
فحذف ألف الاستفهام، وهو يريد أترى، وقولوا: أراد أتحبها، وهذا خطأ فاحشٌ، إنما يجوز حذف الألفِ إذا كان في الكلامِ دليلٌ عليها، وسنفسرُ هذا ونذكرُ الصوابَ منه، إن شاء الله.
قوله: تحبها إيجاب عليه، غير استفهامٍ؛ إنما قالوا: أنت تحبها، أي قد علمنا ذاك، فهذا معنى صحيحٌ لا ضرورة فيهِ.
وأما قولُ امرىء القيس فإنما جاز لأنه جعل الألف التي تكونُ للاستفهام تنبيهاً للنداءِ، واستغنى بها، ودلت على أن بعدها ألفاً منويةً، فحذفت ضرورةً، لدلالة هذه العليها. ونظير قول امرىء القي: "أحار ترى برقاً" فاكتفى بالألفِ عنِ أن يعيدها في ترى قول ابن هرمة:
ولا أراها تزالُ ظالمةً ... تظهر لي قرحة وتنكؤها
استغنى بلا الأولى عن إعادتها؛ كما قال التميمي. وهو اللعين المنقري:
لعمرك ما أدري وإن كنتُ داريا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقرِ
يريد "أشعيث" فدلت "أم" على ألف الاستفهام، وقال ابن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
مثل ذلك: وبيت الأخطل فيه قولان، وهو:
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلامَ من الربابِ خيالاَ
قال: أراد: "أكذبتك عينكَ" كما قلنا فيما قبله، وليس هذا بالأجود، ولكنه ابتدأ متيقنا ثم شك، فأدخل "أم" كقولك: "إنها لإبل" ثم تشك فتقول: "أم شاء" يا قوم.
وقوله: "قلت بهراً" يكون على وجهين؛ أحدهما: حباً يبهرني بهراً.
أي يملأني، ويقال للقمر ليلة البدرِ: باهرٌ، أييبره النجوم، يملأها، كما قال ذو الرمة:
كما يبهر البدرُ النجومَ السواريا
وقال الأعشى:
حكمتموه فقضى بينكمُ ... أبلج مثل القمرِ الباهرِ
والوجهُ الآخر: أن يكون أراد "بهراً لكم" أي: تباً لكم حيث تلومونني على هذا، كما قال ابن ميادة1:
تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بجاريةٍ بهراً لهم بعدها بهرا
وقوله:
عدد النجم والحصى والترابِ
فيه قولان: أحدهما أنه أراد بالنجم النجوم، ووضع الواحد في موضع الجمع، لأنه للجنس؛ كما تقول: أهلك الناس الدرهم والدينارُ، وقد كثرتِ الشاةَ والبعيرُ، وكما قال الله جل وعزَّ: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2.
وقال الشاعر:
فبات يعدُّ النجمَ في مستجيرةٍ ... سريعٍ بأيدي الآكلين جمودها
يريد النجمَ، ويعني بالمستحيرة إهالة3. والوجهُ الآخرُ أن يكون النجمُ ما نجمَ من النبتِ، وهو ما لم يقم على ساقٍ، والشجرُ ما يقوم على ساقٍ.
واليقطين: ما انتشر على وجه الأرض. قال الله عز وجل: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 1، وقال الحارث بن ظالمٍ، للأسودِ بن المنذر بنماء السماء:
أخصيي حمارٍ بات يكدم نجمةً ... أيؤكل جيراني وجارُكَ سالمُ!
ومن طريف شعره قوله:
فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئت ... مصابيحُ شبت بالعشاءِ وأنؤرُ
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروح رعيانٌ ونومَ سمرُ
ونفضت عني العين أقبلت مشية الـ ... ـحباب وركبي خيفة القوم أزورُ
فحييتُ إذ فاجأتها فتولهت ... وكادت بمكنون التحيةِ تجهرُ
وقالت وعضت بالبنانِ: فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسرُ
أريتك إذ هنا عليك ألم تخف ... رقيباً وحولي من عدوكَ حضرُ
واللهِ ما أدري أتعجيلُ حاجةٍ ... سرت بك أم قد نامَ من كنت تحذرُ
فقلت لها: بل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عينٌ من الناس تنظرُ
فيا لك من ليلٍ تقاصرَ طولهُ ... وما كان ليلي قبلَ ذلك يقصرُ
ويا لك من ملهى هناك ومجلسٍ ... لنا لم يكدره علينا مكدرُ
يمج ذكيَّ المسكِ منها مفلجٌ ... رقيقُ الحواشي ذو غروبٍ مؤشرُ
يرفُّ إذا يفترُّ عنه كأنهُ ... حسى بردٍ أو أقحوانٌ مغورُ
وترنو بعينيها إلي كما رنا ... إلى ربابٍ وسط الخميلةِ جؤذرُ
فلما تقضي الليلُ إلا أقلهُ ... وكادت توالي نجمه تتغورُ
أشارت بأن الحيَّ قد حان منهمُ ... هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزورُ
فما راعني إلا منادٍ برحلةٍ ... وقد لاح مفتوقٌ من الصبح أشقرُ
فلما رأت من قدر تثورَ منهمُ ... وأيقاظهم قالت أشرْ كيف تأمرُ
فقلت: أباديهم فإما أفوتهم ... وإما ينالُ السيفُ ثأراً فيثأرُ
فقالت: أتحقيقاً لِما قال كاشحٌ ... علينا، وتصديقاً لما كان يؤثر!
فإن كان ما لا بد منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاءِ واسترُ
أقص على أختي بدء حديثنا ... ومالى من أن تعلما متأخر
لعلهما أن تبغيا لك مخرجاً ... وأن ترحبا سرباً بما كنتُ أحصرُ
فقامت كئيباً ليس في وجهها دمٌ ... من الحزنِ تذري عبرةٌ تتحدرُ
فقالت لأختيها: أعينا على فتى ... أتى زائراً والأمر للأمر يقدرُ
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا: ... أقلي عليكِ الهمَّ فالخطبُ أيسرُ
يقوم فيمشي بيننا متنكراً ... فلا سرنا يفشو ولا هو يظهرُ
فكان مجني دون من كنتُ أتقي ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبانٍ ومعصرُ
فلما أجزنا ساحةَ الحي قلن لي: ... ألم تتقِ الأعداءَ والليلُ مقمرُ!
وقلن: أهذا دأبك الدهرَ سادراً ... أما تستحي أو ترعوي أو تفكرُ!
قوله: "شبت" يقول: أوقدت، يقالُ: شببتُ النارَ والحربَ، أي أوقدتهما.
وقوله: "وأنؤر" إن شئت همزتَ، وإن شئت لم تهمز، وإنما الهمز لانضمام الواو، وقد مضى تفسير هذا.
وقوله: "قميرٌ"، إنما صغره لأنه ناقصٌ عن التمام، وهذا في أول الشهر، وكذلك يصغرُ في آخر الشهر، لأن النقصان فيهما واحدٌ، قال عمرُ:
وقميرُ بدا ابن خمسٍ وعشريـ ... ـن له قالتِ الفتاتان قوما
وقوله: رعيانٌ يريد جمع الراعي، ومثله: راكبٌ وركبانٌ، وفارسٌ وفرسانٌ.
والسمرُ: جمع السامرِ، وهم الجماعة يتحدثون ليلاً.
والحباب: حيةٌ بعينها.
وقوله: ونفضت عني العين يقول: احترستُ منها وأمنتها، والنفضة: أمامَ العسكر: القوم يتقدمون فينفضون الطريق.
وقوله: أزورُ، يعني متجافياً، يقال: تزاور فلانٌ؛ إذا ذهب في شقٍّ.
وقوله: ذو غروبٍ؛ غربُ كل شيءٍ: حده، وإنما يعني الأسنانَ.
وقوله: "مؤشرُ" يعني له أشرٌ، وهو تشريرُ الأسنان في قول الناس جميعاً، يقال: لأسنانه أشرٌ، فهذا الشائعُ الذائع، وأما الشنبُ، فهو عندهم جيمعاً بردٌ في الأسنان.
وحدثني الرياشي عن ابن عائشة قال: أخذ أبي حبةَ رمانٍ بين إصبعيه فإذا هي ترفُ، فقال: هذا الشنبُ.
وقوله:
وكادت توالي نجمه تتغورُ
التوالي: التوابعُ، وتتغورُ: تغورُ فتذهب، وهو مأخوذ من الغور.
وقوله: "أشارت بأن الحي قد حان منهم هبوبٌ" يقول: انبتاهٌ، يقال: هبَّ من نومه يهبُّ، قال عمرو بن كلثومٍ:
ألا هبي بصحنكِ فاصبحينا ... ولا تبقي خمورَ الأندرينا
وقال الاخر:
هبت تلومُ وليست ساعةَ اللاحي ... هلا انتظرت بهذا اللومِ إصباحي
وعزور: موضع بعينه.
وقوله: ويقاظهم جمع يقظ.
وقوله: فقالت أتحقيقاً أي أتفعل هذا تحقيقاً، ومن كلام العرب: أكلُّ هذا بخلاً? وذاك أنه رآه يفعل شيئاً أنكره فقال: أتفعل كل هذا بخلاً! وقوله: أباديهم أظهر لهم، غير مهموزٍ يقال. بدا يبدو، غير مهموزٍ، إذا ظهر، وبدأت بهذا، مهموزٌ، إذا أردت به معنى الأول.
وقوله: بدء حديثنا يريد أول حديثنا.
وقوله: أن ترحبا يريد: أن تتسع، أي تتسع صدروهما، من قولهم: فلانُ رحيب الصدرِ.
وقوله: "أحصرُ" أضيق به ذرعاً، قد مضى تفسيره.
وقوله: "مجني" يريد تُرسي.
وقوله: "ثلاث شخوص" والوجهُ ثلاثةً أشخُصٍ ولكنها لما قصد إلى النساء أنثَ على المعنى، وأبان لما أرادَ بقوله: "كاعبانِ ومعصرُ".
ومثله قولُ الشاعر:
فإن كلابا هذا عشرُ أبطنٍ ... وأنت بريء من قبائلها العشرِ
فقال: "عشرُ أبطنٍ"، لن البطنَ قبليةٌ، وأبانَ ذلك في قوله: من قبائلها العشرِ، وقال الله جل وعز: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 1 لأن المعنى حسناتٌ.
ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبةَ المري إلى المدينة اعترض الناس، فمر به رجل من أهل الشام معه ترسٌ قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشأم، مجن ابن أبي ربيعة أحسن من مجنك! يريد قول ابن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاثَ شخوصٍ كاعبان ومعصرِ
وقوله: أما تستحي، يريد: تستحيي وله تفسير يبعد في العربية قليلاً، وسنذكره بعد هذا، إن شاء الله.













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید