المنشورات

جرير في عمر بن عبد العزيز

وقال جرير يمدحُ عمرَ بن عبد العزيز:
ما عدَّ قومٌ كأجدادٍ تعدهمُ ... مروان ذو النور والفاروق، والحكمُ
أشبهت من عمرَ الفاروقِ سيرتهُ ... قاد البريةَ وائتمت به الأممُ
تدعو قريشٌ وأنصارُ النبي له ... أن يمتعوا بأبي حفصٍ وما ظلموا
وفيه يقول جريرٌ أيضاً:
يعودُ الحلمُ منك على قريشٍ ... وتفرج الكربَ الشدادا
وقد أمنت وحشهم برفقٍ ... ويعيي الناسَ وحشكَ أن يصادا
وتبني المجدَ يا عمرَ ابن ليلى ... وتكفي الممحلَ السنةَ الجمادا
وتدعو الله مجتهداً ليرضى ... وتذكر في رعيتكَ المعادا
فما كعبُ بن مامةَ وابنُ سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا1
وقال أيضا - وكان ابن سعد الأزدي قد تولى صدقات الأعرابِ وأعطياتم، فقال جريرٌ يشكوه إلى عمرَ -:
إن عيالي لا فواكهِ عندهم ... وعند ابن سعدٍ سكر وزبيبُ
وقد كان ظني بابنِ سعدٍ سعادة ... وما الظن إلا مخطىءُ ومصيبُ
فإن ترجعوا رزقي إلي فإنه ... متاعُ ليالٍ والأداءُ قريبُ
تحنى العظامُ الزاحفاتُ من البلى ... وليس لداءِ الركبتين طبيبُ
وقال يرثيه أيضاً:
نعى النعاةُ أميرَ المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمراً جسيماً فاصطبرت له ... وقمت فيه بحق اللهِ يا عمرا
فالشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
قوله: يا عمرا ندبةٌ، أراد: يا عمراه! وإنما الألف للندبة وحدها، والهاء تزاد في الوقف لخفاء الأف، فإذا وصلت لم تزدها، تقول: يا عمرا ذا الفضلِ، فإن وقفت قلت: يا عمراه: فحذف الهاء في القافية لاستغنائه عنها.
فأما قوله: "نجوم الليل والقمرا"، ففيه أقاويل كلها جيدٌ، فمنها أن تنصب "نجوم، والقمرَ" بقوله: بكاسفةٍ، يقول: الشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ نجومً الليل والقمرَ، يقول: إنما تكسفُ النجومَ والقمرَ بإفراطِ ضيائها، فإذ كانت من الحزن عليه قد ذب ضياؤها ظهرت الكواكبُ. ويقال: إن الغبار يوم حليمة سد عين الشمس فظهرت الكواكب المتباعدةُ عن مطلع الشمسِ. ويوم حليمة هو اليوم الذي سافر فيه المنذرُ بن المنذرِ بعربِ العراق إلى الحارث الأعرج الغساني، وهو الأكبر، والحارث في عربَ الشأم وهو أشهر أيام العرب؛ ومن أمثالهم في الأمر الفاشي: "ما يوم حليمة بسرٍّ"، وفيه يقولُ النابغة:
تخيرن من أزمان يومِ حليمةٍ ... إلى اليوم قد حرثن كل التجاربِ
وأظن قول القائل من العرب: "لأرينك الكواكبَ ظهراً"؛ إنما أخذ من يوم حليمةَ، قال طرفةُ:
إن تنولهُ فقد تنمعه ... وتريه النجمَ يجري بالظهرْ
وقال الفرزدق لخالدِ بن عبد الله القسري:
لعمري لقد سار ابن شبية سيرةٌ ... أرتكَ نجومَ الليل مُظهرةً تجري
ويجوز أن يكون: "نجوم الليل والقمرا" أراد بهما الظرف، يقول: تبكي الشمسُ عليك مدة نجوم الليل والقمرِ، كقولك: تبكي عليك الدهرَ والشهرَ، وتبكي عليك الليل والنهارَ، يا فتى، ويكونُ: تُبكي عليك الشمس النجومَ، كقولك: أبكيت زيداً على فلانٍ لما رأيتُ به.
وقد قال في هذا المعنى أحدُ المحدثين شيئاً مليحاً، وهو أحمد أخو أشجع السلمي، بقوله لنصر بن شبث العقيلي، وكان أوقع بقومٍ من بني تغلبَ بموضعٍ يعرفُ بالسواجيرِ، وهو أشبه بالشعرِ، قال:
للهِ سيفٌ في يدي نصرِ ... في حده ماءُ الردى يجري
أوقعنصر بالسواجير ما ... لم يوقع الجحاف بالبشرِ
أبكي بني بكرٍ على تغلبٍ ... وتغلباً أبكي على بكرِ
ويكون: "تبكي عليك نجوم الليل والقمر"، على أن تكون الواو في معنى مع، وإذا كانت كذلك فكان قبل الاسم الذي يليه أو بعده فعلٌ انتصب لأنه في المعنى مفعول وصل الفعل إليه فنصبه. ونظيرُ ذلك: استوى الماء والخشبة لأنك لم ترد استوى الماء واستوت الخشبة؛ ولو أردت ذلك يم يكن إلا الرفع، ولكن التقدير: ساوى الماءُ الخشبة، وكذلك "ما زلت أسير والنيلَ" يا فتى؛ لأنك لست تخبر عن النيل بسير، وإنما تريدُ أن سيرك بحذائه ومعه، فوصل الفعلُ. وهذا بابٌ يطولُ شرحه. فإن قلتَ: "عبد الله وزيدٌ أخواك" وأنت تريد بالواو معنى مع، لم يكن إلا الرفعُ، لن قبلها اسماً مبتدأ، فهي على موضعِهِ.
وأجود التفسير عندنا في قوله الله جلَّ وعزَّ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} 1 أن تكون الواو في معنى مع، لأنك تقولُ: أجمعت رأيي وأمري، وجمعتُ القومَ، فهذا هو الوجهُ. وقومٌ ينصبونه على دخوله بالشركة مع اللام في معنى الأول، والمعنى الاستعدادُ بهما، فيجعلونه كقولِ القائلِ:
يا ليت زوجكِ قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحا
والرمح لا يتقلد، ولكن أدخل مع ما يتقلد، فتقديره: "متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً"، ويكون تقدير الآية: فأجمعوا أمركم وأعدوا شركاءكم. والمعنى يؤول إلى أمر واحدٍ. ومن ذلك قوله:
شراب ألباٍ وتمرٍ وأقطْ
فأما ما جاء من القرآن على هذا خاصة؛ فقوله جل وعزَّ {َوَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 2 فأدخل من ههنا، لأن الناس مع هذه الأشياء، فجرت على لفظٍ واحدٍ، ولا تكون من إلا لمن يعقل إذا أفردتها.












مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید