المنشورات

السر وكتمانه

قال أبو العباس في المثل السائر: قيل لرجل: ما خفي? قال: ما لم يكن.
وفي تفسير هذه الآية: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 1. قال: ما حدَّثت به نفسك. كما قال: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 2، تقديره في العربية: وأخفى منه.
والعرب تحذف مثل هذا، فيقول القائل: مررت بالفيل أو أعظم، وإنه كالبقَّة3 أو أصغر، ولو قال: رأيت زيداً أو شبيهاً لجاز، لأنّ في الكلام دليلاً، ولو قال: رأيت الجمل، أو راكباً، وهو يريد: "عليه": لم يجز لأنه لا دليل فيه، والأول إنما قرّب شيئاً من شيءٍ، وههنا إنما ذكر شيئاً ليس من شكل ما قبله. فأما قوله جل ثناؤه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 4 وفيه قولان: أحدهما - وهو المرضي عندنا -: إنما هو: وهو عليه هينٌ، لأن الله جلَّ وعزَّ لا يكون عليه شيء أهون من شيءٍ آخرَ. وقد قال معن بن أوسٍ:
لعمركَ من أدري وإني لأؤجل ... على أينا تغدو المنيةُ أولُ
أرد: وني لوجلٌ، وكذلك يتأول من في الأذن? "الله أكبر الله أكبر"، أي الله كبيرٌ، لأنه إنما يفاضل بين الشيئين إذا كانا من جنس واحد1، يقال: هذا أكبرُ من هذا، إذا شاكله في باب.
فأما "الله أجود من فلان" و"الله أعلم بذلك منك"، فوجه2 بين، لأنه من طريقِ العلم والمعرفةِ والبذلِ والإعطاءِ.
وقوم يقولون: "الله أكبر من كل شيءٍ"، وليس يقع هذا على محض الروية3، لأنه تبارك وتعالى ليس كمثلهِ شيءٌ4، وكذلك قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمه اعز وأطولٌ
جائزٌ أن يكون قال للذي يخاطبه: من بيتكَ، فاستغنى عن ذكر ذلك بما جرى من المخاطبة والمفاخرة، وجائز أن تكون دعائمه عزيزةٌ طويلةٌ، كما قال الآخر5:
فبحتم يا آل زيدٍ نفرا ... ألأم أصغراً وأكبرا
يريد: صغاراً وكباراً.
فأما قول مالك بن نويرة في ذؤاب بن ربيعة حيث قتل عتيبة بن الحارث بن شهابٍ، وفخر6 بن أسدٍ بذلك، مع كثرة من قتلت بنو يربوع منهم:
فخرت بنو أسدٍ بمقتل واحدٍ ... صدقت بنو أسدٍ عتيبةُ أفضلُ
فإنما معناه أفضل ممن قتلوا، على ذلك يدل الكلامُ. وقد أبان ما قلنا في بيته الثاني بقوله:
فخروا بمقتلهِ ولا يوفي به ... مثنى سراتهم الذين نقتل
والقول الثاني في الآية: وهو أهون عليه عندكم، لأن إعادة الشيء عند الناس أهون من ابتدائه حتى يجعل شيئاً من لا شيء.
ثم نعود إلى الباب.
قال زهيرٌ:
ومهما تكن عند امرىءٍ من خليقةٍ ... ولو خالها تخفى على الناس تعلمِ
فهذا مثل المثل الذي ذكرناه.
وقال عمرو بن العاص: إذا أنا افشيت سري إلى صديقي فأذاعه فهو في حل: فقيل له: وكيف ذاك? قال: أنا كنت أحق بصيانته.
وقال امرؤ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانهُ ... فليس علي شيءٍ سواه بخزانِ
وأحسن ما سمع في هذا ما يعزى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقائل يقول: هو له، ويقول آخرون: قاله متمثلا، ولم يختلف في أنه كان يكثرُ إنشاده:
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا
وذكر العتبي أن معاوية بن أبي سفيان أسر إلى عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان حديثاً، قال عثمانُ: فجئت إلى أبي، فقلت: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً، أفأحدثك به? قال: لا، إنه من كتم حديثه كان الخيارُ إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً بعد أن كنت مالكاً، فقلت له: أو يدخل هذا بين الرجل وابيه? فقال: لا، ولكني أكره أن تذلل لسانك بإفشاء السر، قال: فرجعت إلى معاوية، فذكرتُ ذلك له، فقال معاوية: أعتقك أخي من رقِّ الخطإ.
وقال معاوية: أعنت على علي رحمه الله بأربع: كنت رجلاً أكتمُ سري،وكان رجلاً ظهره1، وكنت في أطوع جند وأصلحه، وكان في أخبث جندٍ وأعصاه، وتركته واصحاب الجمل وقلتُ: إن ظفروا به كانوا أهون علي منه، وإن ظفر بهم اعتددت بها عليه في دينه. ن وكنتُ أحب إلى قريشٍ منه، فيا لك من جامعٍ إلي ومفرق عليه! وعونٍ لي وعونٍ عليه!
وقال أردشير: الداء في كل مكتومٍ.
وقال الأخطل:
إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالعر يكمن حيناً ثم ينتشرُ
وقال جميلٌ:
ولا يسمعن سري وسرك ثالثٌ ... ألا كل سرٍّ جاوز اثنين شائعُ
وقال آخر، وهو مسكينُ الدرامي:
وفتيان صدقٍ لستُ أطلعُ بعضهم2 ... على سر بعض غير أني جماعها
يظلون في الأرض الفضاء وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
لكل امرىء شعبٌ من القلب فارغٌ ... وموضوعُ نجوى لا يرام اضطلاعها
وقال آخر:
سأكتمه سري وأحفظ سره ... ولا غرني أني عليه كريمُ
حليم فينسى أو جهول يضيعه ... وما الناس إلا جاهل وحليمٌ
وكان يقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سره ولم يبدهِ لصديقه فيوشك أني صير عدواً فيذيعهُ.
وقال العتبي:
ولي صاحبٌ سري المكتومُ عنده ... مخاريق نيرانٍ بليلٍ تحرقُ3
عطفت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمانٍ لا تتخرق
فمن تكنِ الأسرار تطفو بصدره ... فأسرارُ صدري بالأحاديث تغرقُ
فلا تودعن الدهر سرك أحمقاً ... فإنك إن أودعته منه أحمقُ
وحسبكَ في سترِ الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأريبُ الموفقُ:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدرُ الذي يستودعُ السر أضيقُ
وقال كعب بن سعدٍ الغنوي:
ولست بمبدٍ للرجال سريرتي ... ولا أنا1 عن أسرارهم بسئولِ
ولا أنا يوماً للحديث سمعتهُ ... إلى هاهنا من هاهنا بنقولِ2
وقد ذكرنا قول العباس بن عبد المطلب رحمه الله لابنه عبد الله: ن ذا الرجل قد اختصك دون أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجربن الرجل عليك كذباً، ولا تفشين له سراً، ولا تغتب عنده أحداً. فقيل لابن عباس: كل واحدةٍ منهن خيرٌ من ألفِ دينارٍ، فقال: كل واحدةٍ منهن خيرٌ من عشرةِ آلافٍ.
وقال بعض المحدثين:
لي حيلةٌ فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلهْ
من كان يكذبُ ما يري ... د فحيلتي فيه قليلهْ3
وقال آخر [قال أبو الحسن: هو أبو العباس المبرد] :
إن النموم أغطي دونه خبري ... وليس لي حيلةٌ في مفتري الكذبِ
وقال بعض المحدثين:
كتمت الهوى حتى إذا نطقت به ... بوادر من دمعِ يسيل على خدي4
وشاع الذي أضمرت من غير منطقٍ ... كأن ضمير القلب يرشح من جلدي
وقال جميل بن عبد الله بن معمرِ العذري1:
إذا جاوز الإثنين سرٌ فإنه ... بنث وإفشاءِ الحديث قمينُ
وتأويل قمين، وحقيقٍ، وجدير، وخليق، واحدٌ، أي قريب من ذاك، هذا حقيقتُه، يقال: قمينٌ، وقمنٌ، في معنى. قال الحادرث بن خالدٍ المخزومي:
من كان يسال عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزلٌ قمنُ
وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من باع داراً أو عقاراً فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مالٌ قمنٌ ألا يبارك فيه".
وقال الرقاشي:
إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق ... كلاماً تكلمنا بأعيننا سرا
فنقضي ولم يعلم بنا كل حاجةٍ ... ولم نكشف النجوى ولم نهتك السترا
وقال معاوية لعباس2 بن صحار العبدي: ما أقرب الاختصار? فقال لمحة دالةٌ.
وقيل: خيرُ الكلام ما أغنى اختصاره عن إكثاره.
وقيل: النمام سهم قاتلُ وقال أحد المحدثين:
لا أكتم الأسرار لكن أذيعها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي
وإن قليل العقلِ من باتَ ليلةً ... تقلبه الأسرارُ جنباً على جنبِ
وقال آخر:
ومنع جارتي من كل خيرٍ ... وأمشي بالنميمةِ بين صحبي
ويقال للنمام: القتات.
وفي حديثٍ: "لا يراح القتاتُ رائحةَ الجنةِ".
وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. "لعن الله المثلث" فقيل: يا رسول الله، ومن المثلث? فقال: "الذي يسعى بصاحبه إلى سلطانه، فيهلك نفسه وصاحبه وسلطانه".
وقال معاوية للأحنف في شيءٍ بلغه عنه، فأنكر ذلك الأحنف، فقال له معاوية: بلغني عنك الثقة، فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إن الثقة لا يبلغُ.
وقال أحد الماضين1:
إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرا أُذيعَ، وإن لم يسمعوا كذبوا
وقال المهلب بن أبي صفرة: أدنى أخلاق الشريف كتمانُ السرِّ وأعلى أخلاق نسينث ما أسر إليه.
ويقال للنكاح: السرُّ؛ على غير وجه وهذا ليس من الباب الذي كنا فيه، ولكني ذكر الشيء بالشيء، وهذا حرف يغلط فيه، لأن قوماً يجعلون السرَّ الزنا، وقومٌ يجعلونه الغشيانَ، وكلا القولين خطأَ، إنما هو الغشيانُ من غير وجهه. قال الله جلَّ وعزّ: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} 2، فليس هذا موضع الزنا.
وقال الحطيئة:
ويحرم سرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاعِ
وقال الأعشى لسلامة ذي فائشٍ الحميري:
وقومك إن يضمنوا جارةً ... وكانوا بموضِعِ أنضادها 3
فلن يطلبوا سرها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها4
في هذا قولان:
أحدهما أنهم لا يطلبون اجترارها إليهم على رغم أوليائها منأجل ماله، غضباً1 للجوار، ولا يسلمونها إذا انقطع رجاؤهم من الثواب والمكافأة.
والآخر أنهم لا يرغبون في ذوات الأموال؛ إنما2 يرغبون في ذواتِ الأحساب؛ اختيارً للأولاد، وصيانةً للأصهار، أن يطمع فيهم من لا حسب له.
وقوله الحطيئة:
ويأكل جارهم أنفَ القصاعِ
إنما يريد المستأنف الذي لم يؤكل قبل منه شيء؛ يقال: روضةٌ أنف؛ إذا لم ترعَ، وكأسٌ أنف، إذا لم يشرب منها شيء قبل، قال لقيط بن زرارة:
إن الشواءَ والنشيلَ والرغفْ3 ... والقينة الحسناءَ والكاس الأنفْ
للطاعنين الخيل والخيل خنفْ4













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید