المنشورات

أعشى يمدح هودة بن علي

وللحارث بن وعلة يقول الأعشى - وكان قصده فلم يحمده، فعرج1 عنه إلى هوذة بن علي ذي التاج. وهوذة من بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، والحارث بن وعلة من بني رقاش، وهي امرأة، وأبوهم مالك بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، فقال الأعشى يذكر الحارث بن وعلة وهوذة بن علي:
أتيت حريثاً زائراً عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا
إذا ما رأى ذا حاجة فكأنما ... يرى أسداً في بيته وأساودا
لعمرك ما أشبهت وعلة في الندى ... شمائله ولا أباه مجالدا
وإن امرأ قد زرته قبل هذه ... بجو لخير منك نفساً ووالدا
تضيفته يوماً فقرب مجلسي ... وأصفدني على الزمانة قائدا
وأمتعني على العشا بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ حامدا
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة ... ويعدو على جمع الثلاثين واحدا
وهي كلمة.
قوله: "أتيت حريثاً" يريد الحارث، تصغيره على لفظه1: حويرث.
وهذا التصغير الآخر يقال له تصغير الترخيم، وهو أن تحذف الزوائد من الاسم ثم تصغر حروفه الأصلية، فتقول في تصغير أحمد: حميد لأنه من الحمد، وفي الحارث: حريث، لأنه من الحرث، وفي غضبان: غضيب، لأنه من الغضب، لأن الألف والنون زائدتان. وكذلك ذوات الأربعة، تقول في تصغير قنديل على لفظه قنيديل، فإن صغرته مرخماً حذفت الياء فقلت: قنيدل، فعلى هذا مجرى الباب.
وقوله: عن جنابة، يقول: عن غربة وبعد. يقال: هم نغم الحي لجارهم جار الجنابة، أي الغربة. يقال: رجل جنب، ورجل جانب، أي غريب، قال الله جل وعز: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} 2. وقال الحطيئة:
والله ما مغشر لاموا امرأ جنباً ... في آل لأي بن شماس بأكياس
وقال علقمة بن عبدة:
فلا تحرمني نائلاً عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
فمن قال للواحد: جنب قال للجميع: أجناب، كقولك: عنق وأعناق، وطنب وأطناب، ومن قال للواحد: جانب، قال للجميع: جناب، كقوله: راكب وركاب، وضارب وضراب. قالت الخنساء:
إبكي أخالك لأيتام وأرملة ... وابكي أخاك إذا جاورت أجنابا
وإن كان من الجنابة التي تصيب الرجل قلت: رجل جنب، ورجلان جنب وكذلك المرأة والجميع، وقد يجوز، وليس بالوجه، رجلان جنبان، وامرأة جنبة، وقوم أجناب.
وقوله:
يرى أسداً في بيته وأساودا
يريد جمع أسود سالخ، وأسود ههنا نعت، ولكنه غالب، فلذلك جرى ههنا مجرى الأسماء، لأنه يدل على الحية، وأفعل، إذا كان نعتاً بنفسه فجمعه: فغل، نحو: أحمر وحمر، وأسود وسود، وإذا كان نعتاً فأجري مجرى الأسماء فجمعه: أفاعل نحو أساود، وأجادل، وأداهم، إذا أردت القيد، لأنه نعت غالب يجري مجرى الأسماء، وإن أردت أدهم - الذي هو نعت محض - قلت: دهم، قال الأشهب بن رميلة:
أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود
فأجراه مجرى الأسماء، نحو: الأصاغر، والأكابر، والأحامد.
وقوله:
لعمرك ما أشبتهت وعلة في الندى ... شمائله.....................
فإنه جعل: شمائله، بدلاً من وعلة، والتقدير: ما أشبهت شمائل وعلة.
والبدل على أربعة أضرب: فواحد منها أن يبدل أحد الاسمين من الآخر إذا رجعا إلى واحد، ولا تبالي أمعرفتين كانا أم معرفة ونكرة، وتقول: مررت بأخيك زيد، لأن زيداً رأسه. لما قلت: ضربت زيداً، أردت أن تبين موضع الضرب منه.
فمثل الأول قول الله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1. وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} 2. و {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} 3.
ومثل البدل الثاني قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 4
من، في موضع خفض، لأنها بدل من الناس، ومثله، إلا أنه أعيد حرف الخفض: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} 1.
والبدل الثالث مثل ما ذكرنا في البيت، أبدل: "شمائله" منه، وهي غيره، لاشتمال المعنى عليها، ونظير ذلك: أسألك عن زيد أمره. لأن السؤال عن الأمر وتقول على هذا: سلب زيد ثوبه، فالثوب غيره، ولكن به وقع السلب، كما وقعت المسألة عن خبر زيد، ونظير ذلك من القرآن: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 2. لأن المسألة إنما كانت عن القتال: هل يكون في الشهر الحرام? وقال الشاعر وهو الأخطل3:
إن السيوف غدوها ورواحها ... تركت هوازن مثل قرن الأعضب4
وبدل رابع، لا يكون مثله في القرآن ولا في الشعر، وهو أن يغلط المتكلم فيستدرك5 غلطه، أو ينسى فيذكر فيرجع إلى حقيقة ما يقصد له، وذلك قوله: مررت بالمسجد دار زيد، أراد أن يقول: مررت بدار زيد، فإما نسي، وإم غلط، فاستدرك فوضع الذي قصد له في موضع الذي غلط فيه.
وقوله: بجو فهي قصبة اليمامة.
وقوله: تضيفته يوماً: إنما هو تفعلته، من الضيافة، يقال: ضفت الرجل، أي نزلت به، وأضافي، أي أنزلني.
وقوله: وأصفدني: يقول: أعطاني، وهو الإصفاد، والصفد الاسم، والإصفاد المصدر، قال النابغة:
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
ويقال: صفدت الرجل فو مصفود، من القيد، ولا يقال في القيد: أصفدت، ولكن صفدته صفداً، واسم القيد الصفد، قال الله جل وعز: {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} 6. كقولك: جمل وأجمال، وصنم وأصنام.
وقوله: فتى لو يباري الشمس، يقول: يعارض، يقال: انبرى لي فلان، أي اعترض [لي1] في المعنى، وفلان يباري الريح، من هذا أي يعارض الريح بجوده، فهذا غير مهموز. فأما: بارأت الكري فهو مهموز، لأنه من أبرأني وأبرأته. ويقال: برأ فلان من مرضه، برئ يا فتى؛ والمصدر منهما البرء فاعلم، وبريت القلم غير مهموز، الله البارئ المصور. ويقال: ما برأ الله مثل فلان، مهموز، وقولك: البرية، أصله من الهمز، ويختار فيه تخفيف الهمز، ولفظ التخفيف والبدل واحد، وكذلك يختار في النبي التخفيف، ومن جعل التخفيف لازماً قال في جمعه: أنبياء، كما يفعل بذوات الياء والواو، وتقول: وصي وأوصياء، وتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء، ومن همز الواحد قال في الجميع: نباء، لأنه غير معتل، كما تقول: حكيم وحكماء، وعليم وعلماء وأنبياء لغة القرآن والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال العباس بن مرداس السلمي:
يا خاتم النباء إنك مرسل ... بالحق كل هدى السبيل هداكاً 2
وقوله:
أو القمر الساري لألقى المقالدا
إنما سكن3 الياء ضرورة، وإنما جاز ذلك لأن هذه الياء تسكن في الرفع والخفض، فإذا احتاج الشاعر إلى إسكانها في النصب قاس هذه الحركة على الحركتين: الضمة والكسرة الساقطتين، فشبهها بهما، فجعلها كالألف التي في: مثنى التي هي على هيئة واحدة في جميع الإعراب، قال النابغة:
ردت عله أقاصيه ولبده ... ضرب الوليدة يا مسحاة في الثأد4
فأسكن الياء في: أقاصيه. وقال رؤبة:
كأن أيديهن بالقاع القرق5 ... أيدي جوار يتعاطين الورق 6
وقال:
سوى مساحيهن تقطيط الحقق1
[ويروى: تقطيط، بالنصب، وهو أجود، لأن بعده:
تفليل ما قارعن من سمر الطرق
والطرق: جمع طرقة2] .
وقال آخر:
كفى بالنأي من أسماء كاف ... وليس لحبها ما عشت شاف
وأما قوله:
وأمتعني على العشا بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ حامدا
فإنه كان يتحدث عنه، ثم أقبل عليه يخاطبه، وترك تلك المخاطبة.
والعرب تترك مخاطبة الغائب إلى مخاطبة الشاهد، ومخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب. قال الله جل وعز: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 3. كانت المخاطبة للأمة، ثم صرفت4 إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخباراً عنهم. وقال عنترة:
شطت مزار العاشقين فأصبحت ... عسراً علي طلابك ابنة محرم
فكان يحدث5 عنها ثم خاطبها. ومثل ذلك قول جرير:
وترى العواذل يبتدرن ملامتي ... فإذا أردن سوى هواك عصينا
وقال الآخر:
فدى لك والدي وسراة قومي ... ومالي إنه منه أتاني
وهذا كثير جداً.
وقوله:
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة
أي قليلاً، من الاقتصار. ويروى: ويغدو، ويعدو جميعاً.













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید