المنشورات
طرائف من تشبيهات المحدثين
ثم نذكر بعد هذا طرائف من تشبيه المحدثين وملاحاتهم، فقد شرطناه في أول الباب، إن شاء الله.
قال أبو العباس: ومن أكثرهم تشبيهاً، لاتساعه في القول، وكثرة ثقبه1، واتساع مذهبه2 الحسن بن هانئ، قال في مديحه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك:
وكنا إذا ما الحائن الجد غره ... سنا برق غاو أو ضجيج رعاد
تردى له الفضل بن يحيى بن خالد ... بماضي الظبا أزهاه طول نجاد
أما خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قناً وجياد
فما هو إلا الدهر يأتي بصرفه ... على كل من يشقى به ويعادي
قوله: الحائن الجد يقال: حان الرجل، إذا دنا موته، ويقال: رجل حائن، والمصدر الحين. والجد: الحظ، والجد والجدة، مفتوحان، فإذا أردت المصدر من جددت في الأمر، قلت: أجد جداً مكسور الجيم، ويقال: جددت النخل أجده جداً وجداداً3 إذا صرمته. ويقال: جذذته جذاً. وتركت الشيء جذاذاً، إذا قطعته قعاً. ويروى هذا البيت لجرير على وجهين:
آل المهلب جذ الله دابرهم ... أضحوا رماداً فلا أصل ولا طرف
ويروى جد، وقرأ بعض القراء: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 4 فأما قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} 5 فلم يقرأ بغيره. ويقال: كم جذاذ نخلك. أي كم تصرم منها. ويروى من قول الله جل وعز: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} 6 عن أنس بن مالك: "غنى ربنا". وقرأ سعيد بن جبير: "جدا ربنا". ولو قرأ قارئ "جدا ربنا" على معنا: جد ربنا لم يقرأ به لتغير الخط، وكذا قراءة سعيد مخالفة الخط1.
وهذا الشعر ينشد بالكسر:
أجدك لم تغتمض ليلة ... فترقدها مع رقادها
ومثله2:
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... رسول الإله حين أوصى وأشهدا
لأن معناه أجداً منك، على التوقيف، وتقديره في النصب: أتجد جداً، ويقال: امرأة جداء، إذا كانت لا ثدي لها، فكأنه قطع منها، لأن أصل الجد القطع، ويقال: بلدة جداء، إذا لم تكن بها مياه. قال الشاعر:
وجداء ما يرجى بها ذو هوادة ... لعرف ولا يخشى السماة ربيبها3
القرابة والهوادة في المعنى واحدة. قال أبو الحسن: السماة هم الصادة نصف النهار، وروي عن بعض أصحابنا، عن المازني قال: إنما سمي سامياً بالمسماة، وهو خف يلبسه لئلا يسمع الوحض وطأه، وهو عندي من سما للصيد.
ينشد هذا البيت:
أبى حبي سليمى أن يبيدا ... وأصبح حبلها خلقاً جديد
يقول: أصبح خلقاً مقطوعاً، لأن جديداً في معنى مجدود أي مقطوع، كما تقول: قتيل ومقتول وجريح ومجروح.
ويقال في غير هذا المعنى: رجل مجدود، إذا كان ذا خطر وحظ1، وفي الدعاء "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، أي من كان له حظ في دنياه لم يدفع ذلك عنه ما يريد الله به. ولو قال قائل: ولا ينفع ذا الجد منك الجد - يريد الاجتهاد - لكان وجهاً.
وقوله: سنا برق غاو والسنا: من الضياء مقصور. قال الله جل وعز: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2. والسناء: من المجد ممدود. وقال الشاعر:
وهم قوم كرام الحي طراً ... لهم خول إذا ذكر السناء
وضربه الحسن3 ههنا مثلاً وجمع الرعد فقال: رعاد، كقولك: كلب وكلاب، وكعب وكعاب.
وقوله: بماضي الظبي. ظبة كل شيء حده، يقال: وخزه بظبة السيف، يراد بذلك حد طرفه.
وقوله: أزهاه طول نجاد، النجاد: حمائل السيف، وأزهاه: رفعه وأعلاه، والرجل يمدح بالطول، فلذلك يذكر طول حماله. قال مروان بن أبي حفصة يمدح المهدي:
قصرت حمائله عليه فقلصت ... ولقد تأنق قينها فأطالها
وقال الحسن بن هانئ يمدح محمداً الأمين:
سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام4
وقال جرير للفرزدق:
تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع ... إلى الغر من أهل البطاح الأكارم
فإني لأرضى عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم
وقال الآخر:
لما التقى الصفان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها
تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها
وقوله: أمام خميس، الخميس ههنا: الجيش، وكذلك قال ربيئة أهل خيبر، لما أطل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم: محمد الخميس، أي والجيش. وقال الشاعر، وهو طرفة:
وأي خميس لا أفأنا تهابه ... وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
أفأنا: رددنا. يقال: أفاءه يفيء إذا رد. والأرجوان: الأحمر1. قال الشاعر:
عشية غادرت خيلي حميداً ... كأن عليه حلة أرجوان
والجياد: الخيل. وفي القرآن: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} 2.
ومن تشبيهه3 الجيد في هذا الشعر الذي ذكرنا قوله:
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... كأنهما رجلا دبى وجراد4
فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... ويوم رقاب بوكرت لحصاد
ومن التشبيه الجيد قوله5:
فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما
وكان سبب هذا الشعر أن الخليفة تشدد عليه من شرب الخمر، وحبسه من أجل ذلك حبساً طويلاً، فقال:
أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما
كبر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما1
لم يطق حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألا يقيما
فهذا المعنى لم يسبقه إليه أحد.
قال: وحدثت أن العماني2 الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس:
كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلماً محرفا3
فعلم القوم كلهم أنه قد لحن، ولم يهتد منهم أحد لإصلاح البيت إلا الرشيد. فإنه قال له: قل: تخال أذنيه إذا تشوفا. والراجز وإن كان لحن فقد أحسن التشبيه.
ويروي أن جريراً دخل إلى الوليد، وابن الرقاع4 العاملي عنده ينشده القصيدة التي يقول فيها:
غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها
قال جرير: فحسدته على أبيات منها، حتى أنشد في صفة الظبية:
تزجي أغن كأن إبرة روقه
قال: فقلت في نفسي: وقع والله، ما يقدر أن يقول أو يشبه به، قال: فقال:
قلما أصاب من الدواة مدادها
قال: فما قدرت حسداً له أن أقيم حتى انصرفت.
ومن التشبيه1 الحسن الذي نستطرفه قوله:
تعاطيكها كف كأن بنانها ... إذا اعترضتها العين صف مداري
ومن التشبيه المليح قوله:
وكأن سلمى إذ تودعنا2 ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا3
رشأ تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا4
وفي هذا الشعر من التشبيه5 الجيد قوله:
خير فؤادك أو ستخبره ... قسماً لينتهين أو حلفا
الحب ظهر أنت راكبه ... فإذا صرفت عنانه انصرفا
ومن التشبيه الجيد قوله6:
إليك رمت بالقوم خوص كأنما ... جماجمها فوق الحجاج قبور
وله أيضاً:
سأرحل من قود المهارى شملة ... مسخرة ما تستحث بحادي1
مع الريح ما راحت فإن هي أعصفت ... نهور برأس كالعلاة وهادي2
العلاة: السندان، قال جرير:
أيفخر بالمحمم قين ليلى ... وبالكير المرقع والعلاة
وقال الحسن بن هانئ في صفة السفينة:
بنيت على قدر ولاءم بينها ... طبقان من قير ومن ألواح
فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملاح
جون من العقبان يبتدر الدجى ... يهوي بصوت واصطفاق جناح
وقال في شعر آخر، يصف الخمر، ويذكر صفاءها ورقتها، وضياءها وإشراقها:
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا3
فأما قوله:
بنينا على كسرى سماء مدامة ... جوانبها محفوفة بنجوم
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذاً لاصطفاني دون كل نديم
فإنما كانت صورة كسرى في الإناء. وقوله:
جوانبها محفوفة بنجوم
فإنما يريد ما تطوق به من الزبد.
وقد قال في أخرى.
[أول الشعر من غير الأم1:
ودار ندامى خلفوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضعاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي فألفت شملهم ... وإني على أمثال تلك لحابس] 2
أقمنا بها يوماً ويوماً وليلة ... ويوماً له يوم الترحل خامس
تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها3 كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما ذرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
العسجدية: منسوبة إلى العسجد، وهو الذهب.
وقال المثقب العبدي:
قالت ألا تشتري ذاكم ... إلا بما شئنا ولم يوجد
إلا ببدري ذهب خالص ... كل صباح آخر المسند
من مال من يجني ويجني له ... سبعون قنطاراً من العسجد
وقوله: تدريها أي تختلها. يقال: دريت الصيد. إذا ختلته. قال الأخطل:
وإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني ... بسهمك والرامي يصيد وما يدري
وقال الحسن بن هانئ:
ما حطك الواشون من رتبة ... عندي ولا ضرك مغتاب1
كأنما أثنوا ولم يعلموا2 ... عليك عندي بالذي عابوا
وهذا المعنى عندي مأخوذ من قول النعمان بن المنذر لحجل بن نضلة، وقد ذكر معاوية بن شكل، فقال: أبيت اللعن! إنه لقعو الأليتين، مقبل النعلين، فجج الفخذين، مشاء بأقراء، تباع إماء، قتال ظبآء. فقال النعمان: أردت أن تذيمه فمدهته.
قوله: مقبل النعلين، يقول: لنعله قبال. ينسبهإلى الترفه. وتباع إماء، وقتال ظباء، من ذلك.
والقعو: ما تدور فيه البكرة إذا كان من خشب.
وقوله: تذيمه معناه تذمه. يقال: ذمه يذمه ذماً وذامه يذيمه ذيماً، وذأمه يذأمه ذأما. والمعنى واحد، قال الله تبارك وتعالى: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} 3.وقال الحارث بن خالد المخزومي لعبد الملك:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها
وقوله: فمدهته يريد مدحته. فأبدل من الحاء هاء، لقرب المخرج، وبنو سعد بنزياد مناة بن تميم كذلك تقول: ولخم ومن قاربها.
قال رؤبة:
لله در الغانيات المدَّه4 ... سبحن واسترجعن من تألهي5
يريد المدح، وفي هذه الأرجوزة:
براق أصلاد الجبين الأجله1
يريد الأجلح، والعرب تقول: جلح الرجل جلحاً، وجله يجله جلهاً، وجلي يجلي جلى، والمعنى واحد، قال العجاج:
مع الجلا ولائح القتير
ومثل بيت الحسن وكلام النعمان قول عمرو بن معد يكرب:
كأن محرشاً في بيت سعدي ... يعل بعيبها عندي شفيع2
وفي قصيدة الحسن هذه:
إن جئت لم تأت وإن لم أجئ ... جئت، فهذا منك لي داب!
كأنما أنت وإن كنت لا ... تكذب في الميعاد كذاب
وهذا كلام طريف.
ومن حسن تشبيه المحدثين قول بشار بن برد العقيلي3:
وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا4
وتخال ما جمعت عليه ... بنانها ذهباً وعطرا
وهذا التشبيه الجامع.
ونظيره في جمع شيئين لمعنيين ما ذكرت لك من قول مسلم بن الوليد:
كأن فيسرجه بدراً وضرغاما
ومن حسن التشبيه من قول المحدثين قول عباس بن الأحنف:
أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق1
فهذا حسن في هذا جداً.
ومن حسن ما قالوا في التشبيه قول إسماعيل بن القاسم، أبي العتاهية للرشيد:
أمين الله أمنك خير أمن ... عليك من التقى فيه لباس
تساس من السماء بكل فضل ... وأنت به تسوس كما تساس
كأن الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس
وقد أخذ هذا المعنى علي بن جبلة، فقال في مدحه حميد بن عبد الحميد، وزاد في الشرح والترتيب، فقال:
يرتق ما يفتق أعداؤه ... وليس يأسو فتقة آسي2
فالناس حسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الراس
والعرب تختصر في التشبيه، وربما أومأت به إيماء، قال أحد الرجاز:
بتنا بحسان ومعاه تئط3 ... ما زلت أسعى بينهم وألتبط4
حتى إذا كاد الظلام يختلط5 ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط!
يقول في لون الذئب، واللبن إذا جهد6 وخلط بالماء ضرب إلى الغبرة، وأنشد الأصمعي:
وتشربه محضاً وتسقي عيالها ... سجاجاً كأقراب الثعالب أورقا
السجاج: الرقيق الممذوق. والقربان: الجنبان، والواحد قرب، والجميع أقراب1، من ذلك قول عمر بن الخطاب رحمه الله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد شاور في رجل جنى جناية، وجاء قومه يشفعون له، فشفع له قوم آخرون، فقال له عمر: يا رسول الله، أرى أن توجع قربيه، فقال القوم: يا رسول الله، إنك لن تشتد على أمتك بقول عمر: فنزل إليه جبرائيل عليه السلام فقال له ثلاثاً: يا محمد، القول قول عمر، شد الإسلام بعمر. فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب الرجل.
والأورق: لون بين الخضرة والسواد، يقال: جمل أورق بين الورقة، وهو الأم ألوان الإبل عند العرب وأطيبها لحماً.
ومن مليح التشبيه للمحدثين2 قول عبد الصمد بن المعدل في صفة العقرب:
تبرز كالقرنين حين تطلعه ... تزحله مراً ومراً ترجعه3
في مثل صدر السبت خلق تفظعه ... أعصل خطار تلوح شعه4
أسود كالسبجة فيه مبضعه ... لا تصنع الرقشاء ما لا يصنعه5
وفي هذه الأرجوزة أيضاً:
بات بها حين حبيش يتبعه ... وبات جذلان وثيراً مضعه6
ذا سنة آمن ما يروعه ... حتى دنت منه لحتف تزمعه
فاظت تجم سمها وتجمعه ... يا بؤس للمودعه ما يودعه7
فشرعت أم الحمام إصبعه ... أنحت عليه كالشهاب تلذعه8
عطك سربال حرير تخلعه ... فكل خل ظاهر تفجعه1
يزداد من بغت الحمام جزعه ... واليأس من تيسيره توقعه
وكذلك قال يزيد بن ضبة أو يزيد بن الصمة2.
قال أبو الحسن: شك العباس في أنه لأحدهما، أعني هذا البيت:
وكنهم بانوا ولم أدر بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت3
ومن أحسن التشبيه ومليحه قول رجل يهجو رجلاً برثاثة الحال:
يأتيك في جبة محرقة ... أطول أعمار مثلها يوم
وطيلسان كالآل يلبسه ... على قميص كأنه غيم
والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له، وإنما ذكرنا منه شيئاً لئلا يخلو هذا الكتاب من شيء من المعاني.
ونختم ما ذكرنا من أشعار المحدثين ببيتين أو ثلاثة من الشعر الجيد، ثم نأخذ في غير هذا الباب إن شاء الله. قال طفيل:
تقريبه المرطى والجون معتدل ... كأنه سبد بالماء مغسول
السبد: طائر بعينه. وقد قالوا: الخصفة التي توضع عند البئر، وهو بالطائر أشبه، وإنما أراد العرق في هذا الوقت. وخير الخيل ما لم يسرع عرقه ولم يبطئ، فإذا جاء ف وقته شمله.
قال الراجز:
كأنه والطرف منه سامي ... مشتمل جاء من الحمام
وقال الأعشى:
يعادي النحوص ومسحلها ... وعفوهما قبل أن يستجم
النحوص، جماعها نحص، وهي التي لم تحمل في عامها. والمسحل: العير. والعفو: الولد وجمعه عفاء، فاعلم؛ وهو أسعى له إذا لم يكن لعامه. ويستحم: يعرق. وفي حديث أم زرع: مضجعه كمسل الشطبة1 وتكفيه ذراع التجفرة2، ومعناه أنه خميص البطن، وهذا تمدح به العرب وتستحسنه، فأما قول متمم بن نويرة:
فتى غير مبطان العشيات أروعا3
فإما أراد أنه لا يستعجل بالعشاء لانتظاره الضيف؛ كما قال:
وضيف إذا أرغى طروقاً بعيره ... وعان نآه الغل حتى تكنعا4
وقالوا في قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
قالوا: أرادت بطلوع الشمس وقت الغارة، وبغروب الشمس وقت الأضياف.
وقال رجل لبعض أهله5: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح6 فتكون فارساً: وقال رجل من بني أسد لرجل من قيس: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان.
فهذه كلها نعوت قد عرفت لقوم حتى كأنها سمات لهم، وكانوا يقولون: ينبغي أن يكون الفارس1 مهفهف الخصرين2، متوقد العينين، حمش الذراعين3. وأنشد الأصمعي:
كأنما ساعداه ساعد ذيب
قالوا: ومن نعت السيد أن يكون لحيماً، ضخم الهامة، جهير الصوت، إذا خطا أبعد، وإذا تؤمل ملأ العين؛ لأن حقه أن يكون في صدر مجلس، أو ذروة منبر، أو منفرداً في موكب.
وكانوا يقولون في نعت السيد: يملأ العين جمالاً، والسمع مقالاً.
وقال أبو علي دعبل بن علي في رجل نسبه إلى السؤدد، يقوله لمعاذ بن جبل بن سعيد الحميري، وهو من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه:
فإذا جالسته صدرته ... وتنحيت له في الحاشيه4
وإذا سايرته قدمته ... وتأخرت مع المستأنيه5
وإذا ياسرته صادفته ... سلس الخلق سليم الناحيه6
وإذا عاسرته صادفته ... شرس الرأي أبياً داهيه7
فاحمد الله على صحبته ... وأسأل الرحمن منه العافيه
وهذا المعنى قد أجمله جرير في قوله:
بشر أبو مروان إن عاسرته ... عير وعند يساره ميسور8
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
2 يونيو 2024
تعليقات (0)