المنشورات

عمران بن حطان وأشعاره

هذا خلاف ما قال عمران بن حطان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهب بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وكان1 رأس القعد من الصفرية وخطيبهم وشاعرهم، قال: لما قتل أبو بلال، وهو مرداس بن أدية وهي جدته، وأبوه حدير، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، قال عمران بن حطان:
لقد زاد الحياة إلى بغضاً ... وحباً للخروج أبو بلال
أحاذر أن أموت على فراشي ... وأرجو الموت تحت ذرا العوالي
ولو أني علمت بأن حتفي ... كحتف أبي بلال لم أبالي
فمن يك همه الدنيا فإني ... لها والله رب البيت قال
وفيه يقول:
يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس
تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعد يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
وكان من حديث عمران بن حطان فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل، فكان إذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه، ففي ذلك يقول:
نزلنا في نبي سعد بن زيد ... وفي عك وعامر عوبثان1
وفي لخم وفي أدد بن عمرو ... وفي بكر وحي بني العدان
ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقرع الأضياف، وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده2، فانتمى له من الأزد.
وفي غير هذا الحديث أن عبد الملك ذكر روحاً فقال: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة! أعطي فقه أهل الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام.
رجع الحديث: وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه، فذكر ذلك لعبد الملك، فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه، فقال: خبرني ببعض أخباره، فخبره وأنشده، فقال: إن اللغة عدنانية، وأني لأحسبه عمران بن حطان؛ حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا3
فلم يدر عبد الملك لمن هو، فرجع روح إلى عمران بن حطان، فسأله عنه.
فقال عمران: هذا يقوله عمران بن حطان، يمدح به عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان، إذهب فجئني به، فرجع إليه، فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك، قال عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك، فامض فإني بالأثر، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له1 عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده! فرجع وقد ارتحل عمران، وخلف رقعة فيها:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ... قد ظن ظنك نم لخم وغسان
حتى إذا جفته فارقت منزله ... من بعد ما قيل عمران بن حطان
قد كنت جارك حولاً ما تروعني ... فيه روائع من إنس ومن جان
حتى أردت بي العظمى فأدركني ... ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له ... في النائبات خطوباً ذات ألوان
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
وكنت مستغفراً يوماً لطاغية ... كنت المقدم في سري وإعلاني
لكن أبت لي آيات مطهرة ... عند الولاية في طه وعمران
ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي، أحد بي عمرو بن كلاب. فانتسب له أوزاعياً وكان عمران يطيل الصلاة، وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع فسلم عليه، فدعاه زفر فقال: من هذا? فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع، فقال له زفر: يا هذا، أأزدياً2 مرة وأوزاعياً مرة! إن كنت خائفاً أمناك3، وإن كنت فقيراً جبرناك. فلما أمسى هرب وخلف في منزله رقعة فيها:
إن التي أصبحت يعيا بها زفر ... أعيت عياء على روح بن زنباع
قال أبو العباس: أنشدن1 الرياشي:
أعيا عياها على روح بن زنباع
وأنكره كما أنكرناه، لأنه قصر الممدود، وذل كفي الشعر جائز، ولا يجوز مد المقصور:
ما زال يسألني حولاً لأخبره ... والناس من بين مخدوع وخداع
حتى إذا انقعطت عني وسائله ... كف السؤال ولم يولع بإهلاعي
فاكفف كما كف عني إنني رجل ... إما صميم وإما فقعة القاع
واكفف لسانك عن لومي ومسألتي ... ماذا تريد إلى شيخ لأوزاع!
أما الصلاة فإني لست تاركها2 ... كل امرئ للذي يعني به ساع
أكرم بروح بن زنباع وأسرته ... قوم دعا أوليهم للعلا داع
جاوزتهم سنة فيما أسر به ... عرضي صحيح ونومي غير تهجاع
فاعمل فإنك منعي بواحدة ... حسب اللبيب بهذا الشيب من ناع
ثم ارتحل حتى أتى عمان، فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال ويظهرونه، فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامل3 عمان، فارتحل عمران هارباً، حتى أتى قوماً من الأزد، فلم يزل فيهم حتى مات، وفي نزوله بهم يقول:
نزلنا بحمد الله في خير منزل ... نسر بما فيه من الإنس والخفر
نزلنا بقوم يجمع لله شملهم ... وليس لهم عود سوى المجد يعتصر
من الأزد إن الأزد أكرم أسرة4 ... يمانية قربوا إذا نسب البشر
فأصبحت فيهم آمناً لا كمعشر ... أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
أم الحي قحطان? فتلكم سفاهة ... كما قال روح لي وصاحبه زفر5
وما منهما إلا يسر بنسبة ... تقربني منه وإن كان ذا نفر
فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
قوله:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به
قد مر تفسيره. يقال: هذا أبو مثواي، وللأنثى: هذه أم مثواي، ومنزل الإضافة1، وما أشبهها المثوى، وكذلك قال المفسرون في قول الله عز وجل: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} 2، أي إضافته. ويقال من هذا: ثوى يثوي ثوياً كقولك: مضى يمضي مضياً، ويقال: ثواء، ومضاء، كما قال الشماخ:
طال الثواء على رسم بيمؤود ... أودى وكل جديد مرة مودي
وقوله:
فيه روائع من إنس ومن جان
الواحدة رائعة، يقال: راعني يروعني روعاً، أي أفزعني، قال الله تعالى ذكره: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} 3. ويكون الرائع الجميل، يقال: جمال رائع، يكون ذلك في الرجل والفرس وغيرهما، وأحسب الأصل فيهما واحداً؛ أنه يفرط حتى يروع، كما قال الله جل ثناؤه: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 4، للإفراط في ضيائه. والرائع؛ مهموز، وكذلك كل فعل من الثلاثة مما عينه واو أو ياء، إذا كانت معتلة ساكنة، تقول: قال يقول: وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، يعتل اسم الفاعل فيهمز موضع العين، نحو قائل، وبائع، وخائف، وصائب، فإن صحت العين في الفعل، صحت في اسم الفاعل، نحو: عور الرجل فهو عاور، وصيد فهو صائد، والصيد: داء يأخذ في الرأس والعينين والشؤون. وإنما صحت في عور وحول وصيد لأنه منقول من أحوال وأعور. وقد أحكمنا تفسير هذا الكتاب المقتضب.
وقوله:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
يريد أن يوماً يمان، ولولا أن الشعر لا يصلح بالنصب لكان النصب جائزاً، على معنى أتنقل يوماً كذا ويوماً كذا، والرفع حسن جميل. وهذا الشعر ينشد نصباً:
أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمصال النساء العوارك1!
العوارك، هن الحوائض، وكذلك قوله:
أفي الولائم أولاداً لواحدة ... وفي المحافل أولاداً لعلات!
قال: العلات، سميت لأن الواحدة تعل بعد صاحبتها، وهو من العلل، وهو الشرب الثاني، أي يختلفون ويتحولون في هذه الحالات. ومن كلام العرب: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى! وكذلك إن لم تستفهم وأخبرت قلت: تميمياً مرة علم الله وقيسياً أخرى، أي تنتقل، ومن ثم قال له زفر بن الحارث: أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى? والرفع على أنت جيد بالغ.
وقوله:
لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية
يكون على وجهين: لنفس طاغية، والآخر للمذكر، وزاد الهاء للتوكيد للمبالغة، كما يقال: رجل راوية وعلامة ونسابة، وكلاهما وجه. ويقال: جاءت طاغية الروم، تريد الجماعة الطاغية، كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تقتلك الفئة الباغية".
وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الولي وفي القرآن المجيد: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 2. والولاية مكسورة، نحو السياسة والرياضة والإيالة، وهي الولاية، وأصله من الإصلاح، يقال:آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا؛ تأويل ذلك: قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة، يقول: قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.
وقوله:
حتى إذا ما انقضت مني وسائله
وهي الذريعة والسبب، يقال: قد توسلت إلى فلان، قال رؤبة بن العجاج:
والناس إن فصلتهم فصائلا ... كل إلينا يبتغي الوسائلا
وقوله: ولم يولع بإهلاعي، أي بإفزاعي وترويعي، والهلع من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ باله من الهلع، ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال الله عز وجل1: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً, إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} 2. وقل الشاعر:
ولي قلب سقيم ليس يصحو ... ونفس ما تفيق من الهلاع
وقوله:
إما صميم وإما فقعة القاع
الصميم: الخالص من كل شيء، يقال: فلان من صميم قومه، أين من خالصهم. وقال جرير لهشام بن عبد الملك:
وتنزل من أمية حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصميم
وقوله: إما فقعة القاع يقال لمن لا أصل له، هو فقعة بقاع، وذلك لأن الفقعة لا عروق لها ولا أغصان، والفقعة الكمأة البيضاء، ويقال: حمام فقيع لبياضه، ومن ذا قول الشاعر:
قوم إذا نسبوا يكون أبوهم ... عند المناسب فقعة في قرقر3
وقال بعض القرشيين:
إذا ما كنت متخذاً خليلاً ... فلا تجعل خليلك من تميم
بلوت صميمهم والعبد منهم ... فما أدنى العبيد من الصميم!
وقوله:
نسر بما فيه من الإنس والخفر
فأصل الخفر شدة الحياء، يقال: امرأة خفرة، إذا كانت مستترة لاستحيائها، قال ابن نمير الثقفي:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
وقوله:
من الأزد إن الأزد أكرم أسرة
يقول: عصابة وقبيلة، ويقال للرجل: من أي أسرة أنت? وأصل هذا من الاجتماع، يقال للقتب: مأسور، وقد مضى تفسيره.
وينشد:
يمانية قربوا إذا نسب البشر
يريد قربوا وهذا جائز في كل شيء مضموم أو مكسور إذا لم يكن من حركات الإعراب، تقول في الأسماء في فخذ، وفي عضد، عضد، وتقول في الأفعال: كرم عبد الله، أي كرم، وقد علم الله، أي علم الله، قال الأخطل1:
فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الإبل دبرت صفحتاه وكاهله2
وقال آخر:
عجبت لمولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
ولا يجوز في ضرب ولا في حمل أن يسكن، لخفة الفتحة.
وقوله:
أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
يقول: أمن ربيعة أم من مضر? ويجوز في الشعر حذف ألف الاستفهام، لأن أم التي جاءت بعدها تدل عليها، قال ابن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
يريد: أبسبع? وقال التميمي:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر!
الرواية على وجهين: أحدهما: أمن ربيعة أم مضر، أم الحي قحطان? يريد أذا أم ذا? والأملح1 في الرواية: من ربيعة أو مضر، أم الحي قحطان، لأن ربيعة أخو مضر، فأراد من أحد هذين أم الحي قحطان? لأنه إذا قال: أزيد عندك أم عمرو? فالجواب: نعم أو لا، لأن المعنى أحد هذين2 عندك، ومعنى الأول: أيهما عندك?.
ويروى - وحدثنيه المازني - أن صفية بنت عبد المطلب أتاها رجل، فقال لها: أين الزبير? قالت: وما تريد إليه? قال: أريد أن أباطشه! فقالت: ها هو ذاك، فصار إلى الزبير فباطشه. فغلبه الزبير، فمر بها مفلولاً3 فقالت صفية:
كيف رأيت زبرا
...
أأقطاً أو تمرا
أم قرشياً صقرا
لم تشكك بين الأقط والتمر، فتقول: أيهاما هو? ولكنها أرادت، أرأيته طعاماً أم قرشياً صقراً? أي أحد هذين رأيته أم صقراً? ولو قالت: أأقطاً أم تمراً? لكان4 محالاً على هذا الوجه.
وقوله:
وما منهما إلا يسر بنسبة
معناه وما منها واحد، فحذف لعلم المخاطب، قال الله جل اسمه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} 5. أي وإن أحد ومعنى إن معنى ما، قال الشاعر6:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
يريج فمنهما تارة.
وقوله:
فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
يقول: انقطعت الولاية إلا ولاية الإسلام، لأن ولاية الإسلام قد قاربت بين الغرباء. وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. وقال عز وجل فباعد به بين القرابة: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} 2. وقال نهار بن توسعة اليشكري:
دعي القوم ينصر مدعيه ... ليلحقه بذي الحسب الصميم
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم














مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید