المنشورات

مرداس بن أدية وزياد

ومرداس تنتحله جماعة من أهل الأهواء، لقشفه وبصيرته، وصحة عبادته، وظهور ديانته وبيانه، تنتحله المعتزلة، وتزعم أنه خرج منكراً لجور السلطان، داعياً إلى الحق، وتحتج له بقوله لزياد حيث قال على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاص1، فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام، إذ يقول: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} 2 وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج في عقب هذا اليوم.
والشيع تنتحله، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي صلوات الله عليه: إني لست أرى رأي الخوارج، وما أنا إلا على دين أبيك.
فأما أبو سعيد الحسن البصري فإنه كان ينكر الحكومة، ولا يرى رأيهم وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثاً، ولعن قتلته ثلاثاً، ويقول: لو لم نلعنهم للعنا، ثم يذكر علياً فيقول: لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يتعرفه1 النصر، ويساعده الظفر، حتى حكم، فلم تحكم والحق معك! ألا تمضي قدماً، لا أبالك، وأنت على الحق!
قال أبو العباس: وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحث على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيتك لا أبالك! وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جدبة2 يقول:
رب العباد مالنا ومالكا ... قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبالكا
فأخرجه سليمان أحسن مخرج، فقال: أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة [وأشهد أن الخلق جميعاً عباده] 3.
وقال رجل من بني عامر بن صعصعة أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه:
أبني عقيل لا أبا لأبيكم ... أيي وأي بني كلام أكرم
وقال رجل من طيء، أنشده أبو زيد الأنصاري:
يا قرط قرط حيي لا أبالكم ... يا قرط إني عليكم خائف حذر
أأن روى مرقس واصطاف أعنزه ... من التلاع التي قد جادها المطر
قلتم له اهج تميماً لا أبالكم ... في كف عبدكم عن ذاكم قصر
فإن بيت تميم ذو سمعت به ... فيه تنمت وأرست عزها مضر
قوله: "يا قرط قرط حيي" نصبهما معاً أكثر على ألسنة العرب، وتأويلهما: أنهم أرادوا "يا قرط حيي" فأقحموا" قرطاً" توكيداً، وكذلك لجرير1:
يا تيم تيم عدي لا أبالكم ... لا يلقينكم في سوءة عمر
ومثله لعمر بن لجا2:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل عليك فانزل3
فإن لم ترد التوكيد والتكرير لم يجز إلا رفع الأول: "يا زيد زيد اليعملات" و"يا تيم تيم عدي"، كما تقول: "يا زيد أخا عمرو" على النعت. ومثل الأول في التوكيد "يا بؤس للحرب" فأقحم اللام توكيداً، لأنها توجب الإضافة. وعلى هذا جاء "لا أبالك" و"لا أبا لزيد" ولولا الإضافة لم تثبت الألف في الأب؛ لأنك تقول؛ رأيت أباك، فإذا أفردت: هذا أب صالح، وإنما كانت "لا أباك" كما قال الشاعر:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاقي لا أباك تخوفيني
وقال آخر:
وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلد!
وقوله: "أأن روى مرقس" "مرقس" رجل. وروى: استقى لأهله، يقال: فلان راوية أهله، إذا كان يستقي لأهله، والتي على البعير والحمار مزادة4 فإذا كبرت وعظمت وكانت من ثلاثة آدمة5 فهي المثلثة. وأصغر منها السطيحة6، وأصغرهن الطبع7:
وقوله: "واصطاف أعنزه"، يريد "افتعلت"، من الصيف، أي أصابت البقل فيه.
والتلعة: ما ارتفع من الأرض في مستقر المسيل إذا تجافى السيل عن متنه، وجمعه بلاع.
وقوله: "ذو سمعت به" يريد الذي، وكذلك تفعل طيئ، تجعل ذو في معنى "الذي"، قال زيد الخيل لبني فزارة، وذكر عامر بن الطفيل فقال:
إني أرى في عامر ذو ترون
وقال عارق الطائي:
فإن لم يغير بعض ما قد فعلتم ... لأنتجين للعظم ذو أنا عارقه1
يريد الذي.
ومن ظرفاء المحدثين اليمانية من يعمل هذا اعتماداً لإيثار لغة قومه.
قال الحسن بن هانئ الحكمي:
حب المدامة ذو سمعت به ... لم يبق في لغيرها فضلا
وقال حبيب بن أوس الطائي:
أنا ذو عرفت فإن عرتك جهالة ... فأنا المقيم قيامة العذال
وقال الحسن بن وهب الحارثي:
عللاني بذكرها عللاني ... واسقياني أو لا فمن تسقيان
أنا ذو لم يزل يهون على الند ... مان إن عز جانب الندمان
ويكون العزيز في ساعة الروع ... بصدق الطعان يوم الطعان
ثم نرجع إلى ذكر الخوارج1:
قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى فيه إلى قاتله وهو يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} 2.
ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لما وصفهم قال: "سيماهم التحليق 3 يقرأون القرآن لا تجاوز تراقيهم، علامتهم رجل مخدج اليد" 4.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: "رجل يقال له عمرو ذو الخويصرة"، أو "الخنيصرة".
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه نظر إلى رجل ساجد، إلى أن صلى النبي عليه السلام، فقال: "ألا رجل يقتله "? فحسر أبو بكر عن ذراعه وانتضى السيف وصمد نحوه، ثم رجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أأقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله? فقال النبي عليه السلام: "ألا رجل يفعل "? ففعل عمر مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو قتل لكان أول فتنة وآخرها".











مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید