المنشورات

قال الأخفش: تكانفوا أعان بعضهم بعضاً واجتمعوا وصار بعضهم في كنف بعض.

وعادوا إلى ناحية أرجان، فسار إليهم عمر، وكتب إلى مصعب: أما بعد، فإني قد لقيت الأزارقة. فرزق الله عبيد الله بن عمر الشهادة، ووهب له السعادة. ورزقنا عليهم الظفر. فتفرقوا شذر مذر، وبلغتني عنهم عودة، فيممتهم، وبالله أستعين وعليه أتوكل.
فسار إليهم ومعه عطية بن عمرو ومجاعة بن سعيد، فالتقوا، فألح عليهم حتى أخرجهم. وانفرد عمر1 من أصحابه. فعمد له أربعة عشر رجلاً منهم، من مذكوريهم وشجعانهم وفي يده عمود، فجعل لا يضرب رجلاً منهم ضرة إلا صرعه. فركض إليه قطري على فرس طمرة2. وعمر على مهر فاستعلاه قطري بقة فرسه حتى كاد يصرعه، فبصر به مجاعة فأسرع إليه، فصاحت الخوارج بقطري: يا أبا نعامة! إن عدو الله قد رهقك فانحط قطري عن قربوسه. فطعنه مجاعة، وعلى قطري درعان فهتكهما، وأسرع السنان في رأس قطري، فكشط عنه جلده ونجا.
ارتحل القوم إلى أصبهان فأقاموا بها3 برهة، ثم رجعوا إلى الأهواز، وقد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر، فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعاً، فقال له4: كم جبيت? قال: تسعمائة ألف. فقال: هي لك. فقال يزيد بن الحكم الثقفي لمجاعة:
ودعاك دعوة مرهق فأجبته5 ... عمر وقد نسي الحياة وضاعا
فرججت عادية الكتيبة عن فتى6 ... قد كاد يترك لحمه أوزاعا7
وعزل مصعب بن الزبير وولي حمزة بن عبد الله بن الزبير، فوجه المهلب إليهم، فحاربهم فأخرجهم عن الأهواز، ثم رد مصعب والمهلب بالبصرة، والخوارج بأطراف أصبهان والوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فأقام الخوارج هناك شيئاً يجبون القرى. ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله: ما أنصفتنا، أقمت بفارس تجبي الخراج ومثل هذا العدو يحاربك! والله لو قاتلت ثم هربت لكان أعذر لك، وخرج مصعب من البصرة يريدهم. وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم. فتنحى الخوارج إلى السوس، ثم أتوا المدائن، فقتلوا أحمر طيئ، وكان شجاعاً، وكان من فرسان عبيد الله بن الحر، ففي ذلك يقول الشاعر:
تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ ... بساباط لم يعطف عليه خليل
ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة، فلما خالطوا سوادها، وواليها الحارث بن عبد الله القباع فتثاقل عن الخروج وكان جباناً. فذمره1 إبراهيم بن الأشتر، ولامه الناس، فخرج متحاملاً حتى أتى النخيلة، ففي ذلك يقول الشاعر:
إن القباع سار سيرا نكرا ... يسير يوماً ويقيم شهرا
وجعل يعد الناس بالخروج ولا يخرج. والخوارج يفشون2، حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها. وكانت جميلة، ثما أرادوا قتلها، فقالت: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال قائل منهم: دعوها. فقالوا: قد فتنتك، ثم قدموها فقتلوها، ثم قربوا أخرى، وهم بحذاء القباع والجسر معقود بينهما، فقطعه القباع، وهو في ستة آلاف، والمرأة تستغيث به وهي تقول3: علام تقتلونني? فوالله ما فسقت ولا كفرت ولا ارتددت! والناس يتفلتون إلى الخوارج، والقباع يمنعهم، فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذلك بقطع الجسر، فأقام بين دباها ودبيرى4 خمسة أيام، والخوارج بقربه، وهو يقول للناس في كل يوم: إذا لقيتم العدو غداً فأثبتوا أقدامكم واصبروا، فإن أول الحرب الترامي، ثم إشراع الرماح، ثم السلة1، فثكلت رجلاً أمه فر من الزحف! فقال بعضهم لما أكثر عليهم: أما الصفة فقد سمعناها، فمتى يقع الفعل? وقال الراجز:
إن القباع سار سيرا ملسا ... بين دباها ودبيرى خمساً2
فأخذ الخوارج حاجتهم، وكان شأن القباع التحصن منهم، ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة، وصاروا من فورهم إلى أصبهان، فبعث عتاب بن ورقاء إلى الزبير بن علي: أنا ابن عمك، ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري. فبعث إليه الزبير: إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق3 سواء.
وإنما سمي الحارث بن عبيد الله بن أبي ربيعة القباع، لأنه ولي البصرة فعير على الناس مكاييلهم، فنظر إلى مكيال صغير في مرآة العين وقد أحاط بدقيق استكثره، فقال: إن مكيالكم هذا لقباع. والقباع الذي يخفي أو يخفى ما فيه، يقال: انقبع الرجل، إذا استتر، ويقال للقنفذ القبع، وذلك أنه يخنس رأسه.
قال أبو العباس: وأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال ويراوحونه، حتى طال عليهم المقام، ولم يظفروا منه بكبير، فلما كثر ذلك عليهم انصرفوا، لا يمرون بقرية بين أصبهان والأهواز إلا استباحوها وقتلوا من فيها.
وشاور المصعب الناس فيهم4، فاجتمع5 رأيهم على المهلب، فبلغ الخوارج مشاورته6، فقال لهم القطري: إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب7 ولا يظفر بكبير، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم، فإما له وإما عليه، وإن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه، ويأخذ منكم ولا يعطيكم، فهو البلاء اللازم، والمكروه الدائم.
وعزم المصعب على توجيه المهلب، وأن يشخص هو لحرب عبد الملك، فلما أحس به الزبير بن علي خرج إلى الري، وبها يزيد بن الحارث بن رؤيم. فحاربه ثم حصره. فلما طال عليه الحصار خرج إليه، فكان الظفر للخوارج، فقتل يزيد بن رؤيم، ونادى يومئذ ابنه حوشباً ففر عنه وعن أمه لطيفة، وكان علي بن أبي طالب عليه السلام دخل على الحارث بن رؤيم يعود ابنه يزيد، فقال له: عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك، فسماها يزيد لطيفة، فقتلت معه يومئذ. وفي ذلك يقول الشاعر:
مواقفنا في كل يوم كريهة ... أسر وأشفى من مواقف حوشب
دعاه يزيد والرماح شوارع ... فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب
ولو كان شهم النفس أو ذا حفيظة ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
وقد مر خبر عيسى بن مصعب مستقصى. وقال آخر:
نجى حليلته وأسلم شيخه ... نضب الأسنة حوشب بن يزيد
وقال ابن حوشب لبلال بن أبي بردة يعيره بأمه، وبلال مشدود عند يوسف ابن عمر: يا ابن حوراء. فقال بلال وكان جلداً: إن الأمة تسمى حوراء وجيداء ولطيفة.
وزعم الكلبي أن بلالاً كان جلداً حين ابتلي1 قال الكلبي:
ويعجبني أن أرى الأسير جلداً قال وقال خالد بن صفوان له بحضرة يوسف بن عمر: الحمد لله الذي أزال سلطانك وهد ركنك، وغير حالك، فوالله لقد كنت شديد الحجاب، مستخفاً بالشريف، مظهراً للعصبية فقال له بلال: إنما طال لسانك يا خالد لثلاث معك هن علي: الأمر عليك مقبل وهو عني مدبر، وأنت مطلق وأنا مأسور، وأنت في طينتك وأنا في هذا البلد غريب. وإنما جرى إلى هذا، لأنه يقال إن أصل آل الأهتم من الحيرة، وإنهم أشابة2 دخلت في بني منقر من الروم.
ثم انحط الزبير بن علي على أصبهان، فحصر بها عتاب بن ورقاء الرياحي سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في بعضهن. فلما طال به الحصار قال لأصحابه: ما تنتظرون? والله ما تؤتون من قلة، وإنكم لفرسان عشائركم، ولقد حاربتموهم مراراً فانتصفتم منهم، وما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه أخوه، ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه، فقاتلوا القوم وبكم قوة، من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح الغد، صلى بهم الصبح، ثم خرج بهم1 إلى الخوارج وهم غارون، وقد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين، ومن أراد الجهاد فليخرج معي. فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم، فقاتلوا بجد لم ير الخوارج منهم مثله، فعقروا منهم خلقاً كثيراً وقتلوا الزبير بن علي، وانهزمت الخوارج، فلم يتبعهم عتاب. ففي ذلك يقول الشاعر:
ويوم بجي تلافيته ... ولولاك لاصطلم العسكر2
- قال أبو العباس: نفسر قول: ولولاك في آخر هذا الخبر إن شاء الله - وقال رجل من بني ضبة في تلك الوقعة:
خرجت من المدينة مستميتاً ... ولم أك في كتيبة ياسمينا
أليس من الفضائل أن قومي ... عدوا مستلمين مجاهدينا
وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون، ويحمل بعضهم على بعض، وربما كانت مواقفة لغير حرب3، وربما اشتدت الحرب بينهم. وكان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح، ويكنى أبا هريرة، إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج وبالزبير بن علي:
يا ابن أبي الماحور والأشرار ... كيف ترون يا كلاب النار!
شد أبي هريرة الهرار ... يهركم بالليل والنهار4
ألم تروا جياً على المضمار ... تمسي من الرحمن في جوار5
فغاظهم ذلك منه، فكمن له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه، فظنت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا توافقوا نادوهم: ما فعل الهرار? فيقولون: ما به من بأس، حتى أبل من علته، فخرج إليهم فصاح: يا أعداء الله، أترون بي بأساً! فصاحوا به: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية، في النار الحامية.
قال أبو العباس: نفسر أشياء من العربية تحتاج إلى الشرح. من ذلك قوله: ولولاك، ومنه قوله: ألم تروا جياً ومنه قوله: يهركم بالليل والنهار.
أما قوله: لولاك فإن سيبويه يزعم أن لولا تخفض المضمر ويرتفع بعدها الظاهر بالإبتداء. فيقال: إذا قلت لولاك، فما الدليل على أن الكاف مخفوضة دون أن تكون منصوبة، وضمير النصب كضمير الخفض? فتقول: إنك تقول لنفسك: لولاي، ولو كانت منصوبة لكانت النون قبل الياء، كقولك: رماني وأعطاني، قال يزيد بن الحكم الثقفي:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي1
النيق: أعلى الجبل، وجزم الإنسان خلقه.
فيقال له: الضمير في موضع ظاهره، فكيف يكون مختلفاً? وإن كان هذا جائزاً فلم لا يكون في الفعل وما أشبهه، نحو إن وما كان معها في الباب? وزعم الأخفش سعيد أن ضمير مرفوع، ولكن وافق ضمير الخفض، كما يستوي الخفض والنصب، فيقال: فهل هذا في غير هذا الموضع? قال أبو العباس: والذي أقوله أن هذا خطأ لا يصلح، إلا أن تقول: لولا أنت، كما قال عز وجل: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} 2. ومن خالفنا "فهو لا بد"3 يزعم أن الذي قلناه أجود، ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعده.
وأما جي فالأجود فيها أن تقول:
ألم تروا جي على المضمار
فلا تنون، لأنها مدينة، والاسم أعجمي، والمؤنث إذا سمي باسم أعجمي على ثلاثة أحرف ينصرف إذا كان مؤنثاً، وإن كان أوسطه سكاناً، نحو جور وحمص وماه4. وما كن مثل ذلك، ولو كان اسماً لمذكر لانصرف، فإن صرفته جعلته اسماً لبلد، وإن لم تصرفه جعلته اسماً لبلدة أو لمدينة، ألا ترى أنك تصرف نوحاً ولوطاً، وهما أعجميان? وكذلك لو كان على ثلاثة أحرف كلها متحرك، لأنك تصرف قدماً لو سميت بها1 رجلاً، فالأعجمي بمنزلة المؤنث، لأن امتناعها واحد.
وأما قوله: يهركم فإن كل ما كان من المضاعف على ثلاثة أحرف وكان متعدياً، فإن المضارع منه على يفعل، نحو شده يشده، وزره يزره، ورده يرده، وحله يحله وجاء منه حرفان على يفعل، ويفعل، فيهما جيد: هره يهره، إذا كرهه، يهره أجود، وعله بالحناء يعله، ويعله أجود. ومن قال: حبته قال: يحبه لا غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2. وذلك أن بني تميم تدغم في موضع الجزم، وتحرك أواخره لالتقاء الساكنين.













مصادر و المراجع :

١- الكامل في اللغة والأدب

المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)

المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم

الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة

الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید