المنشورات
مرثية أعشى باهلة للمنتشر بن وهب
قال أبو العباس: وكانت العرب تقدم مراثي وتفضلها، وترى قائلها بها فوق كل مؤبن، وكأنهم يرون ما بعدها من المراثي منها أخذت، وفي كنفها تصلح. فمنها قصيدة أعشى باهلة، ويكنى أبا قحافة، التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي، وكان أحد رجليي العرب1. [قال الأخفش: هو منسوب إلى الرجل] ، وهم السعاة السابقون في سعيهم.
وكان من خبره أنه أسر صلاءة بن العنبر الحارثي، فقال: افتد2 نفسك. فأبى، فقال: لأقطعنك أنملة أنملة، وعضواً عضواً ما لم تفتد نفسك؛ فجعل يفعل ذلك به حتى قتله، ثم حج من بعد ذلك المنتشر ذا الخلصة - وهو بيت كانت خثعم تحجه، زعم أبو عبيدة أنه بالعبلات، وأنه مسجد جامعها، فدلت عليه بنو نفيل بن عمرو بن كلاب الحارثيين؛ فقبضوا عليه، فقالوا: لنفعلن بك كما فعلت بصلاءة. ففعلوا ذلك به، فلقي راكب أعشى باهلة، فقال له أعشى باهلة: هل من جائبة خبر? قال: نعم، أسرت بنو الحارث المنتشر، وكانت بنو الحارث تسمي المنتشر مجدعا، فلما صار في أيديهم قالوا: لنقطعنك كما فعلت بصلاءة، فقال أعشى باهلة يرثي المنتشر:
إني أتتني لسان لا أسر بها ... من عل لا عجب منها ولا سخر
فبت مرتفقاً للنجم أرقبه ... حيران ذا حذر لو ينفع الحذر!
فجاشت النفس لما جاء جمعهم ... وراكب جاء من تثليث معتمر
يأتي على الناس لا يلوي على أحد ... حتى التقينا وكانت دوننا مضر
ينعى امرأ لا تغب الحي جفنته ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر
من ليس في خيره شر يكدره ... على الصديق ولا في صفوة كدر
طاوي المصير على العزاء منصلت ... بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر
لا تنكر البازل الكوماء ضربته ... بالمشرفي إذا ما اجلوذ السفر
وتفزع الشؤل منه حين تبصره ... حتى تقطع في أعناقها الجرر
لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه ... وكل أمر سوى الفحشاء يأتمر
تكفيه فلذة كبد إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربة الغمر
لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا تراه أمام القوم يقتفر
لا يغمز الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
مهفهف أهضم الكشحين منخرق ... عنه القميص، لسير الليل محتقر
عشنا بذلك دهراً ثم فارقنا ... كذلك الرمح ذو النصلين ينكسر
[فإن جزعنا فقد هدت مصيبتنا ... وإن صبرنا فإنا معشر صبر
إني أشد حزيمي ثم يدركني ... منك البلاء ومن آلائك الذكر]
لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... من كل أوب وإن لم يأت ينتظر
إما يصبك عدو في مباوأة ... يوماً فقد كنت تستعلي وتنتصر
لو لم تخنه نفيل وهي خائنة ... ألم بالقوم ورد منه أو صدر
وراد حزب شهاب يستضاء به ... كما يضيء سواد الطخية القمر
إما سلكت سبيلاً كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر
من ليس فيه إذا قاولته رهق ... وليس فيه إذا عاسرته عسر
قوله: إني أتتني لسان يقال: هو اللسان وهي اللسان. فمن ذكر فجمعه ألسنة، ونظيره حمار وأحمرة، وفراش وأفرشة، وإزار وآزرة؛ ومن أنث قال: لسان وألسن، كما تقول: ذراع وأذرع، وكراع وأكرع؛ لا تبالي أمضموم الأول كان أو مفتوحاً أو مكسوراً إذا كان مؤنثاً، ألا ترى أنك تقول: شمال وأشمل1 قال أبو النجم:
يأتي لها من أيمن وأشمل
وقال آخر، أنشدنيه المازني:
فظلت تكوس على أكرع ... ثلاث وكان لها أربع2
وأراد باللسان ها هنا الرسالة:
وقوله: من عل يقول: من فوق. فإذا كان معرفة مفرداً بني على الضم. كقبل وبعد. وإذا جعلته نكرة نونته وصرفته، كما قال جرير:
إني انصببت من السماء عليكم ... حتى اختطفتك يا فرزدق من عل
والقوافي مجرورة. وإن شئت رددت ما ذهب منه. وهي ألف منقلبة منن واو، لأن بناءه فعل من علا يا فتى، قال الراجز:
وهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا1
وقوله: فبت مرتفقاً وهو المتكئ على مرفقه، وإنما أراد السهر، كما قال أبو ذؤيب:
إني أرقت فبت الليل مرتفقاً ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح2
وقوله: جاشت النفس يقول: خبثت، يكون ذلك من تذكرها للتهوع3 ومن جزعها منه.
ويورى عن معاوية أنه قال: اجعلوا الشعر أكثر همكم وأكثر آدابكم؛ فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير وقد عزمت على الفرار، فما يردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري:
أبت لي عفتي وأبي بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح4
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي5
يقال: جشأت مهموز، وجاشت غير مهموز وتثليث موضع بعينه1
وقوله: لا يلوي على أحد يقال: استقام فلان فما لوى على أحد، ويقال: ألوى بالشيء إذا ذهب به.
وقوله:
إذا الكواكب أخطا نوءها المطر
فالنوء عندهم طلوع نجم وسقوط آخر، وليس كل الكواكب لها نوء، وإنما كانوا يتقولون هذا في أشياء بعينها؛ ويورى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا" يعني أمر الأنواء، لم يختلف في ذلك المفسرون، وعنه عليه السلام في غب سماء: "أتدرون ما قال ربكم تبارك وتعالى? قال: اصبح عبادي مؤمناً بي وكافراً بالكواكب، وكافراً بي ومؤمناً بالكواكب وأما المؤمن بي الكافر بالكواكب فهو الذي يقول: مطرنا بنوء الرحمة، والمؤمن بالكواكب الكافر بي الذي يقول: مطرنا بنوء كذا".
والنوء، مهموز، وهو من قولك: ناء بجمله، أي استقل به في ثقل، فالنوء مهموز، وهو في الحقيقة الطالع من الكواكب لا الغائر، وكان الأصمعي لا يفسر من الشعر ما فيه ذكر الأنواء، بل كان لا يسمع ما كان فيه هجاء أو كان فيه ذكر النجوم، ولا يفسر ما وافق تفسيره بعض ما في القرآن إلا ساهياً. فيما يذكر أصحابه عنه. ويروى أنه سئل عن غير شيء من ذلك فأباه وزجر السائل.
وقوله: طاوي المصير يقال لواحد المصران مصير. وتقديره: قضيب وقضبان، وكثيب وكثبان.
والعزاء: الأمر الشديد، يقال: فلان صابر على العزاء. وكذلك اللأواء، وكذلك الجلى مقصور. فأما العزاء واللأواء فممدودان.
وقوله: منصلت، يقال: سيف منصلت، وصلت: إذا جرد من غمده.
وقوله: ليلة لا ماء ولا شجر يريد: القفر، ووقت الصعوبة.
وقوله: لا تنكر البازل الكوماء ضربته بالمشرفي.
يقول: قد عود الإبل أن ينحرها، ومن شأنهم أن يعرقبوها قبل النحر. والمشرفي: السيف. وهو منسوب إلى المشارف1
وقوله: اجلوذ، امتد، وأنشدني الزيادي لرجل من أهل الحجاز، أحسبه ابن أبي ربيعة:
ألا حبذا حبذا حبذا ... حبيب تحملت منه الأذى
ويا حبذا برد أنيابه ... إذا أظلم الليل واجلوذا
وقوله:
حتى تقطع في أعناقها الجرر2
يقول: حتى اعتادت أن ينحرها، فهي تفزع منه حتى تقطع حرتها، ومثل هذا قول الخنوت:3
سأبكي خليلي عنتراً بعد هجعة ... وسيفي مرداساً قتيل قنان4
قتيلان لا تبكي اللقاح عليهما ... إذا شبعت من قرمل وأفان
يقول: كانا ينحران الإبل، فهي لا تجزع لفقدهما، وقرمل وأفان: ضربان من النبت. وشبيه بهذا قوله حيث يقول:
فلو كان سيفي باليمين تباشرت ... ضباب الملا من جمعهم بقتيل
يقول: هؤلاء قوم كانوا يحترشون الضباب، فكلما قتل منهم واحد سرت بذلك الضباب واستبشرت.
وقوله:
لا يتأرى لما في القدر يرقبه
يقول: لا يتحبس له، ومن ذا سمي الآري1؛ لأنه محبس الدابة.
وقوله:
ولا تراه أمام القوم يقتفر
يقول: لا يسبقهم إلى شيء من الزاد.
وقوله:
ولا يعض على شرسوفه الصفر
الشراسيف: أطراف الضلوع، ولاصفر: ها هنا: حية البطن، وله مواضع. وقوله: مهفهف يعني ضامراً، وأهضم الكشحين توكيد له.
وقوله:
إما يصبك عدو في مباوأة
يقول: في وتر، يقال: باء فلان بكذا، كما قال مهلهل: بؤ بشسع كليب. أي هو ثأر بالشسع.
والطُّخيةُ، والطَّخيةُ، والطِّخية، ثلاث لغات: شدة الظلمة، وكان الذي أصابه هند بن أسماء الحارثي، ففي ذلك يقول:
أصبت في حرم منا أخا ثقة ... هند بن أسماء لا يهنئ لك الظفر
يقال: هنأ له، كما تقول هنياً له، قال الأخطل:
إلى إمام تغادينا فواضله ... أظفره الله فليهنئ له الظفر
وقوله:
وليس فيه إذا غامرته عسر
مدح شريف، مثل قولهم: "إذا عز أخوك فهن"؛ وإنما هذا فيمن لا يخاف استذلاله، بأن يخرج صاحبه عند مساهلته إلى باب الذل، فأما من كان كذلك فمعاسرته أحمد. ومدافعته أمدح، كما قال جرير:
بشر أبو مروان إن عاسرته ... عسر، وعند يساره ميسور
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
6 يونيو 2024
تعليقات (0)