المنشورات

أول ما تحرك أمر قريش

وأخذ شأنهم يرتفع وذكرهم ينتشر حين قدم قصى مكة من عند أمه فاطمة بنت سعد بن سيل الأزدى أزد شنوءه، وكان كلاب أبو قصى تزوجها فولدت له زيدا (وهو قصى) وزهرة ثم هلك كلاب وزهرة قد شب وزيد صغير، فقدم ربيعة بن خزام العذرى مكة فتزوج فاطمة وحملها الى قومه وحمل زيدا لصغره، فولدت فاطمة لربيعة رزاحا وشب زيد فسمته قصيا لبعد داره،- والقصو البعد- فنازع رجلا من عذرة فقال له العذرى: الحق بقومك فلست منا، فأتى أمه فسألها عن قومه فأخبرته بما كان من أمرها وأمره، فشخص مع الحجاج الى مكة، فلم يلبث ان اجتمع مع أبى غبشان سليم بن عمرو الخزاعى على شراب، فلما سكر أبو غبشان اشترى منه قصى ولاية البيت بزق خمر وقعود، فقيل: أخسر من أبى غبشان، وأحمق من أبى غبشان وأندم من أبى غبشان، فجرت أمثالا. قال بعضهم:
باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ... بزقّ «1» خمر فبئست صفقة البادى
باعت سدانتها بالخمر وانقرضت ... عن المقام وظلّ البيت والنادى

وقال آخر:
أبو غبشان أظلم من قصىّ ... وأظلم من بنى فهر خزاعه
فلا تلحوا «1» قصيّا فى شراه ... ولوموا شيخكم إذ كان باعه
وقال آخر:
إذا فخرت خزاعة فى قديم ... وجدنا فخرها شرب الخمور
وبيعا كعبة الرّحمن جمعا ... بزقّ بئس مفتخر الفجور
وقال آخر:
باعت خزاعة بيت الله صاحبه ... بزقّ خمر فلا فازوا ولا ربحوا
فتحزبت خزاعة على قصى، فاستنصر أخاه من أمه رزاحا. فأقبل بمن معه، وجمع قصى كنانة فنفوا خزاعه عن مكة، وجمع قريشا من رؤوس الجبال وشعابها فأنزلهم الأبطح، فسمى مجمعا، قال مطرود:
قصىّ أبوكم «2» كان يدعى مجمّعا ... به جمّع الله القبائل من فهر
ثم قال أبو تمام:
أادريس ضاع المجد بعدك كلّه ... ورأى الّذى يرجوه بعدك أضيع
مشوا فى زوايا نعشه وكأنّما ... قريش قريش يوم مات مجمّع
ويبسط كفّا فى الخطوب «1» كأنّما ... أناملها فى الجود والبأس أذرع
ففتش قصى عن أجلة قومه فسمى قريشا، والتقريش التفتيش قال الحرث بن حلزة:
أيها المبلغ المقرّش عنا ... عند عمرو وهل لذاك بقاء
وقيل: كان قريش اسما للنضر بن كنانة واشتقاق من التقرش وهو التكسب وكانت قريش تجارا، وقيل التقرش التجمع.
وكانت صوفة تجيز الناس من عرفة الى جمع ومن جمع الى منى، فاذا رمى الناس الجمار أخذت ناحيتى العقبة، فيقولون: أجيزى صوفة، فلا يجوز أحد حتى تجوز صوفة، وكانوا يرون ذلك دينا، فاعترضهم قصى بمن معه وانهزمت صوفة وخلت مكة والموسم لقصى، فكان أول من نال الملك من ولد النضر بن كنانة فقال رزاح بن ربيعة:
جلبنا الخيل مضمرة تعادى ... من الأعراف أعراف الجناب
الى غورى تهامة قادرينا ... بنى الذفراء فى قاع يباب
وقام بنو علىّ اذ رأونا ... على الأسياف كالإبل الظراب «1»
فأمّا صوفة «2» الخنثى فخلّوا ... منازلهم محاذرة الضّراب
وقال رزاح أيضا:
أجبنا قصيّا على نايه ... على الخيل تردى رعبلا رعيلا «3»
نسير بها اللّيل حتّى الصباح ... ونكمى «4» النهار إلى أن يزولا
وردن سراعا كورد القطا ... يورّعن «5» ميلا ويركضن ميلا
بأبناء سعد وأشياعها ... نجوب الحزون ونطوى السهولا
فصبّحن مكّة قبل الغطاط «6» ... فدسن خزاعة دوسا وبيلا
خبطنهم بصلاب النّسور ... كخبط العزيز القوىّ الذّليلا
ومن قبل ذلك ما قد جعلن ... لصوفة منهنّ يوما طويلا
وكنّا له جنّة فى اللّقاء ... وسيفا بيمنى يديه صقيلا
فلما استوى أمر مكة لقصى بنى دار الندوة، فكانت قريش تقضى فيها أمورها، فلا تنكح ولا تشاور فى أمر ولا حرب الا فيها، وهى دار الامارة، وبابها فى المسجد حيال الكعبة.
ثم قال لقريش انتم جيران الله والحجاج زوار الله فهم أضيافه واحق الاضياف بالكرامة أضيافه، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، ففرض عليهم فرضا يدفعونه اليه، فيصرفه فى إقامة الحجاج فجرى ذلك الى اليوم إلا أن الخلفاء هم الذين يقيمونها.
وكان قصى فى زمن بهرام جور وهو بهرام بن يزدجر.
وقصى أول من احتفر بالابطح سقاية للحجاج وسماها العجول وقال:
سقى الله العجول برغم عاد ... وكانت من زيادته العجول
فلم يزل يشرب منها حتى سقط فيها رجل من بنى جعيل فعطلت، وكانت زمزم زمن جرهم.
وهو أول من ثرد الثريد بعد ابراهيم- عليه السلام- وعاب بعض الشعوبية العرب باتخاذ الثريد وقال: لابد أن يفضل من العرب اذا أكلوا فضلة مرق تجعل لمسكين قال: فأرادت العرب ألا يبطل عليهم ذلك فثردوا فيه قال:
وليس من طعام العجم. واحتج بما أخبرنا به أبو أحمد بن الحسين بن عبد الله ابن سعيد عن الجلودى عن محمد بن زكريا عن محمد بن عبيد الله بن محمد بن على قال: قال حصين لفيروز أحب أن أتغذى عندك، قال: فما تشتهى؟
قال: ثريدا: قال: انى أكره أن أضع على مائدتى طعام الكلاب ولكنى أتحمل ذلك لك.
قال أبو هلال:- أيده الله تعالى-: لو كان الثريد طعاما خبيثا مكروها لكان ما يقال فيه شائعا، فأما وهو طعام مشتهى طيب فلا اعتراض على العرب فى اتخاذ طعام طيب، وليس ترك العجم اياه قدحا فيه فكم من شىء مختار قد تركته العجم غفلة عنه أو جهلا به، وليس ثردهم فى المرق يدل على أنهم أرادوا منع ما يفضل منه.














مصادر و المراجع :      

١- الأوائل

المؤلف: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)

الناشر: دار البشير، طنطا

الطبعة: الأولى، 1408 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید