المنشورات

أول من عس بالليل

أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان وعن الجوهرى عن أبى زيد قال: قال عبد الله بن زيد الاسلمى: بينا عمر يعس ذات ليلة اذ سمع امرأة تقول
هل من سبيل الى خمر فأشربها ... أم هل سبيل الى نصر بن حجّاج
فلما أصبح سأل عنه واحضره،- وكان من بنى سليم- فاذا هو أحسن الناس وجها، وشعرا، فحلقه «1» فازداد حسنا، فأمره ان يعتم، «2» ففعل ذلك فازداد حسنا، فقال عمر: والذى نفسى بيده لا يجامعنى فى ارض، فأمر له بما يصلحه وسيره الى البصرة، فكتب نصر من البصرة الى عمر بعد حول:
لعمرى لئن سيّرتنى وحرمتنى ... وما نلت ذنبا انّ ذا لحرام
وما نلت شيئا غير ظنّ ظننته ... وفى بعض تصديق الظّنون أثام
لئن غنّت الحوراء يوما بمنية «3» ... وبعض أمانىّ النّساء غرام
فحقّقت بى الظّن الّذى ليس بعده ... بقاء فمالى فى النّدىّ كلام
فأصبحت منفيا على غير ريبة ... وقد كان لى بالمكّتين مقام
وقد يغنى ممّا تظنّ تكرّمى ... وآباء صدق سالفون كرام
ويمنعها ممّا ظننت صلاتها ... وفضل لها فى قومها وصيام
فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جبّ منّى غارب وسنام «1»
وقالت المرأة:
قل للامام الّذى تحشى بوادره ... مالى وللخمر أو نصر بن حجّاج
انى غنيت أبا حفص بغيرهما ... شرب الحليب وطرف فاتر ساج
إنّ الهوى زمّه التّقوى «2» فحبّسه ... حتّى أقرّ بألجام وأسراج
أمنيّة لم أرد فيها بضائرة ... والنّاس من هالك فيها ومن ناج
فضرب أهل المدينة المثل بهذه المرأة فقالوا: أصعب من المتمنية، وهى العزيمة بنت همام أم الحجاج بن يوسف، وقالوا: جدته، وكان حين عشقت نصرا تحب المغيرة بن شعبة.
وذكروا ان عروة ابن الزبير كنى أخاه عند عبد الملك، فقال له الحجاج: أتكنى أخاك المنافق عند أمير المؤمنين؟ لا أم لك، فقال عروة: ألى تقول ذلك يا ابن المتمنية؟ وأنا ابن عجائز الجنة، صفية وخديجة وأسماء وعائشة «1» .
ولما ورد نصر البصرة نزل على مجاشع بن مسعود، فعشق امرأته شميلة، وكانت هى ونصر كاتبين، ومجاشع أمى لا يكتب، فكتب نصر على الارض بحضرة مجاشع، انى قد احببتك حبا لو كان فوقك لأظلك، او كان تحتك لأقلك، فكتبت شميلة، وأنا، فقال مجاشع ما كتب وكتبت؟ قالت:
كتب كم تحلب ناقتكم وتغل أرضكم؟ فكتب: وأنا فقال: ما هذا لذاك، فطبق وكفأ على الكتابة جفنة، «2» وأتى بمن قرأها، فقال لنصر: ما سيرك عمر لخير، قم فان وراءك اوسع لك، فنهض خجلا الى منزل بعض المسلمين، فضنى «3» من حب شميلة، فبلغ مجاشعا فعاده، فوجد «4» لما به، فقال لشميلة: قومى اليه فمرضيه، ففعلت، وضمته الى صدرها فعادت قواه، قال بعض العواد: قاتل الله الاعشى، كأنه شهد أمرهما فقال:
لو أسندت ميتا إلى صدرها ... عاد ولم ينقل الى قابر
فلما فارقته عاد الى مرضه، فلم تزل تتردد عليه حتى مات، فقال أهل البصرة: أدنف من المتمنى فذهبت مثلا، وروى بعض الشيوخ خلاف هذا قال: لما توفى عمر ركب صدر راحلته حتى أتى المدينة.
وكان عمر غيورا والغيرة من أحمد أخلاق الرجال، وعابوا على معاوية ثلاثا تعين على السؤدد، «1» الجلح، واندحاق البطن، وتركه الافراط فى الغيرة، والجلح انحسار الشعر عن مقدم الرأس، واندحاق البطن خروجه وكبره، ومن أعجب ما روى فى الغيرة ان عبد الله بن الزبير وقف لابيه الزبير بباب داره وقال: لا أتركنك تدخل حتى تطلق أمى فان مثلى لا يحسن أن تكون له أم توطأ، فطلقها، فتركه فدخل، ومما يدل على شدة غيرة عمر- رضى الله عنه- ما أخبرنا أبو أحمد عن أبى بكر بن دريد عن أبى حاتم عن أبى عبيدة قال: تناشد الناس شعرا على عهد عمر- رضى الله عنه- ثلاث سنين ثم ذكر رجل أنه قاتل قائله، فقال عمر: كيف كان شأنك وشأنه؟ فقال: أقبلت حتى نزلت قرية فى الليل واذا مصباح فى بيت رجل يغنى:
وأشعث غرّه الاسلام منّى ... خلوت بعرسه يوم التّمام «2»
فقال عمر: اقتحم عليه، فقال: قد فعلت، ثم قال:
أتيت على ترائبها وتسرى ... على جرداء لاحقة الحزام «3»
فقال عمر: أقتل، قال: قد فعلت، قال أبعده الله الى النار، ثم زاد فيها
كأنّ مجامع الويلات منها ... قيام ينظرون الى قيام
ومنه ما روى لنا أبو أحمد قال: تذاكرنا غيرة عمر بالبصرة، فقال ابن جمهور: دخل رجل من أهل المدينة على امرأته وقد افترشها «1» رجل فقتله، وخرج حتى أتى عمر- رضى الله عنه- وهو يأكل فأكل معه، «2» فجاء أولياء المقتول، فقالوا: الآكل معك قتل صاحبنا، فقال له: أكذلك هو؟ قال:
نعم، دخلت على امرأتى فاذا هو قاعد منها مقعدى فقتلته، قال له عمر:
أحسنت فإن عاد فعد هكذا.
قال وحدث أبو الوليد عن عبد الله بن صالح عن (بور بن برمك) ان عمر كان يعس «3» فى المدينة، فسمع صوت رجل فى بيت يغنى فدخل عليه من وراء البيت، فوجد عنده امرأة وخمرا، فقال: ما هذا يا عدو الله؟ قال:
لا تعجل يا أمير المؤمنين، ان كنت عصيت الله فى واحدة فقد عصيته فى ثلاث، قال الله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا
«4» وقد تجسست وقال: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها
«5» وقد تسورت، وقال: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ
«6» وقد دخلت من غير سلام، قال عمر: فهل عندك من خير ان عفوت عنك؟ قال: بلى «7» يا أمير المؤمنين، لله على ان عفوت عنى الا أعود، فعفى عنه.
















مصادر و المراجع :      

١- الأوائل

المؤلف: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)

الناشر: دار البشير، طنطا

الطبعة: الأولى، 1408 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید