المنشورات
أول من قتل الحجاج بالعراق عمرو بن ضابى البرجمى
أخبرنا أبو أحمد عن الجوهرى عن أبى زيد عن أبى عاصم عن عوف عن أبى رجاء عن أبى بكر الانبارى عن أبيه عن أحمد بن أبى عبيد عن محمد بن زياد بن ريان الكلبى عن عبد الملك بن عمير قالوا: كان عمر وعثمان يعاقبان على الهجاء فاستعار ضابى من قوم كلبا يقال له: فرحان، فأرادوا أخذه منه فقال:
تجشّم نحوى وفد فرحان خطّة ... تظلّ بها الوجناء وهى حسير «2»
فراحوا بكلب مردفيه كأنّما ... حباهم بتاج المرزبان أمير «3»
فأمّكم لا تتركوها وكلبكم ... فإنّ عقوق الوالدين كبير
اذا غبرت من آخر الّليل دخنة ... يظلّ لها فوق الفراش هرير «4»
فاستعدوا عليه عثمان بن عفان، فقال له: ويلك! رميت أم قوم بكلبهم، لو كنت فى عهد رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- لنزل فيك قرآن، فضربه وحبسه، ثم عرض عليه، فوجد عنده خنجرا أراد أن يغتال به عثمان، فرده الى الحبس فقال:
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... تركت على عثمان تبكى حلائله «1»
وما الفتك ما أمّرت فيه ولا الّذى ... تحدّث من لاقيت أنّك فاعله
وما الفتك الّا لامرىء ذى حفيظة ... اذا همّ لم ترعد عليه خصائله «2»
فمات ضابى فى الحبس، فلما قتل عثمان جاء عمير بن ضابى البرجمى «3» فوطئه، وقالوا: لطمه.
قال عبد الملك بن عمير: فلما اشتدت شوكة أهل العراق وطال توثبهم بالولاة، خطب عبد الملك الناس فقال: ان العراق قد علا لهبها، وسطع وميضها، «4» وعظم الخطب بها، فجمرها زكى، «5» وشهابها ورى، «6» فهل من رجل ذى سلاح عتيد، «7» وقلب شديد، فينتدب لهم؟ فيخمد نيرانها ويبيد شبابها، فسكت الناس، فوثب الحجاج فقال: أنا يا أمير المؤمنين للعراق، فقال: ومن أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف الثقفى ابن أبى الحكم بن عقيل بن مسعود صاحب رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وعظيم القريتين، فقال: اجلس فلست هناك، وأطرق عبد الملك مليا، «1» ثم رفع رأسه فقال: من للعراق؟ فسكت الناس، ووثب الحجاج، وقال: انا يا أمير المؤمنين. قال: ومن أنت؟ قال:
من قوم رغبت فى مناكحتهم قريش، ولم يتأبوا منهم، واعادة الكلام مما ينسب صاحبه الى العى، «2» ولولا ذلك لاعدت الكلام الاول، فقال:
اجلس، فلست هناك، وأطرق ثم رفع رأسه وقال: من للعراق؟ فسكت الناس، فقال: مالى ارى الليوث قد أطرقت ولا ارى اسدا يزأر نحو فريسته، فسكتوا، ووثب الحجاج فقال: أنا للعراق يا أمير المؤمنين. قال: وما الذى أعددت لأهلها؟ قال: ألبس لهم جلد النمر، ثم اخوض الغمرات، «3» واقتحم الهلكات، فمن نازعنى طلبته، ومن لحقته قتلته بعجلة وريث، «4» وابتسام وازورار، «5» وطلاقة واكفهرار، «6» وشدة ورفق، وصلة وحرمان، فان استقاموا كنت لهم وليا حفيا، «7» وان خالفوا لم أبق منهم طوديا، «8» ولا عليك ان تجربنى، فان وجدتنى، للطلى «9» قطاعا، وللارواح نزاعا، وللأموال جماعا، والا فاستبدل بى، فان الرجال كثير، فقال عبد الملك. أنت لها، وقال لكاتبه: اكتب له عهده ولا تؤخره، وأعطه من الرجال والكراع «1» والأموال ما سأل، قال عبد الملك بن عمير: بينا نحن جلوس فى المسجد الاعظم بالكوفة اذا أتانا آت فقال: هذا الحجاج بن يوسف، قد قدم أميرا على العراق فاشرأب «2» نحوه الناس، وأفرجوا له إفراجة عن صحن المسجد، فاذا نحن به يتبهنس «3» فى مشيته، عليه عمامة خز حمراء، منتكبا «4» قوسا عربية، يؤم المنبر، فما زلت أرمقه «5» ببصرى حتى صعد المنبر، فجلس عليه، وما يحدر «6» اللثام عن وجهه، وأهل الكوفة حينئذ لهم حال حسنة، وهيئة جميلة، وعز ومنعة، يدخل الرجل منهم المسجد ومعه عشرة أو عشرون من مواليه، عليهم الخزوز والقوهية، «7» وفى المسجد رجل يقال له: عمير بن ضابى البرجمى، فقال: لمحمد بن عمير التميمى، هل لك أن أحصبه؟ قال لا حتى أسمع كلامه، فقال:
لعن الله بنى أمية! يستعملون علينا مثل هذا، ولقد ضيع العراق حين يكون مثل هذا أميرا عليه، والله لو كان هذا كله كلاما ما كان شيئا، والحجاج ينظر يمنة ويسرة، حتى غص المسجد بأهله، فقال: يا أهل العراق! انى لا أعرف قدر اجتماعكم الا اجتمعتم، قال رجل: نعم- أصلحك الله- فسكت هنيهه لا يتكلم، فقالوا: ما يمنعه من الكلام الا العى والحصر، فقام فحدر لثامه، وقال: يا أهل العراق! أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبى عقيل ابن مسعود.
أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفونى «1»
صليب العود من سلفى نزار ... كنصل السّيف وضّاح الجبين «2»
وماذا تزدرى الشّعراء منّى ... وقد جاوزت سنّ الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدّى ... ونجّذنى مداورة الشئون
وانّى لا يعود الىّ قرنى ... غداة الغبّ الّا فى قرينى
والله يا أهل العراق إنى لارى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، والله لكأنى أنظر الى الدماء بين العمائم واللحى.
هذا أوان الحرب فاشتدّى زيم ... قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم «3»
ليس براعى إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم «4»
وقال:
قد لفّها الّليل بعصلبىّ ... وشمّرت عن ساق شمّرىّ «5»
أروع خرّاج من الدّوىّ ... مهاجر ليس باعرابىّ «1»
وقال:
ما علّتى وأنا شيخ إدّ ... والقوس فيها وتر عردّ
مثل جران العود أو أشدّ ويروى مثل جران البكر أو أشد «2» ثم قال:
والله يا أهل العراق، ما يغمز جانبى كنغماز التين ولا يقعقع لى بالشنان، «3» ولقد فرزت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وجريت مع الغاية، وان أمير المؤمنين عبد الملك نثل كنانته «4» بين يديه، فعجم عيدانها «5» عودا عودا، فوجدنى أمرها عودا، وأشدها مكسا، فوجهنى اليكم، ورماكم بى، يا أهل الكوفة، يا أهل النفاق والشقاق ومساوىء الاخلاق، انكم طالما أوضعتم فى الفتنة، وأضطجعتم فى مناخ الضلال، وسننتم سنن الغى، وايم الله لالحونكم لحو العود، «6» ولأقرعنكم قرع المروة، «7» ولا عصبنكم عصب السلمة ولاضربنكم ضرب غرائب الابل، «1» أنى والله لا أحلق الا فريت، «2» ولا أعد الا وفيت إياى وهذه الزرافات، وقال وما يقول، وكان وما يكون، وما أنتم وذاك؟ «3» يا أهل العراق! انما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرتم بأنعم الله، فأتاها وعيد القرى من ربها فاستوسقوا «4» واعتدلوا، ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا، وشايعوا وبايعوا واعلموا أنه ليس منى الاكثار والابذار والاهذار، «5» ولا مع ذلك النفار والفرار، انما هو انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد فى الشتاء والصيف، حتى يذل الله لامير المؤمنين صعبكم، ويقيم له أودكم، وصعركم «6» .
ثم انى وجدت الصدق من البر، ووجدت البر فى الجنة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور فى النار، وان أمير المؤمنين أمرنى باعطائكم أعطياتكم واشخاصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين، وقد أمرت لكم بذلك، وأجلتكم ثلاثة أيام، وأعطيت الله عهدا يؤاخذنى به، ويستوفيه منى، لئن تخلف منكم بعد قبض عطائه احد لاضربن عنقه، وأنهبن ماله، ثم التفت الى أهل الشام فقال: يا أهل الشام! أنتم البطانة والعشيرة، والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر، وانما أنتم كما قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ
«7» والتفت الى أهل العراق فقال:
لريحكم أنتن من ريح الابخر وانما أنتم كما قال الله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ
«1» .
اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام: فقال القارىء: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين الى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنى أحمد اليكم الله، فسكتوا فقال الحجاج من فوق المنبر: اسكت يا غلام، فسكت، فقال: يا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق ومساوىء الاخلاق.
يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام؟ هذا أدب ابن أبيه؟؟ «2» والله لئن بقيت لكم لاؤدبنكم أدبا سوى أدب ابن أبيه، ولتستقيمن لى أو لاجعلن لكل امرىء منكم فى جسده وفى نفسه شغلا.
اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فلما بلغ الى موضع السلام صاحوا وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته، ودخل قصر الامارة، وحجب الناس ثلاثة أيام، وأذن فى اليوم الرابع، فدخل عليه عمير بن ضابى، فقال:- أصلح الله الامير- إنى شيخ كبير وقد خرج اسمى فى هذا البعث، «3» ولى ابن هو على الحرب والاسفار أقوى وأشجع عند اللقاء، فان رأى الامير ان يجعله مكانى فعل، فقال: انصرف أيها الشيخ راشدا، وابعث ابنك بديلا، فلما ولى، قال له عنبسة بن سعيد بن العاص: أيها الامير! أتعرف هذا؟ قال: لا والله! قال: هو عمير بن ضابى، الذى أراد أبوه ان يفتك بعثمان، فلم يزل محبوسا عنده حتى أصابته الدببلة «4» فمات. ثم جاء هذا فوطىء أمير المؤمنين عثمان- رضى الله عنه- وهو مقتول. فكسر ضلعا من أضلاعه، وأبوه الذى يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... تركت على عثمان تبكى حلائله
فقال على بالشيخ، فلما أتى به قال له: أما يوم الدار «1» فتشهده بنفسك، وأما فى قتال الخوارج فتبعث بديلا، ان فى قتلك لصلاحا لاهل المصرين. «2» يا حرسى! «3» اضرب عنقه. فضربت عنقه فصاح البراجم على الباب فقال، ارموا اليهم برأسه، فرمى به فولوا هاربين.
وكان ابن عم «4» لعبد الله بن الزّبير الاسدى، قد سأله ليشفع له الى الحجاج ليأذن له فى التخلف، فلما قتل عمير بن ضابى خرج ولم ينتظر الاذن.
فقال عبد الله بن الزبير:
أقول لإبراهيم لمّا لقيته ... أرى الأمر أمسى مقطعا متصعّبا
تجهّز فإمّا ان تزور ابن ضابىء ... عميرا وإمّا أن تزور المهلّبا
هما خطّتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثّلج أشهبا «5»
والّا فما الحجّاج مغمد سيفه ... مدى الدهر حتّى يترك الطّفل أشيبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السّوق أو هى أقربا
فكم قد رأينا تارك الغزو باكيا ... تحمّم حنو السّرج حتّى تحنّبا «1»
فلما اتصلت الخيل والرجال بالمهلب عجب وقال: لقد ولى العراق رجل ذكى.
أخبرنا أبو أحمد عن أبى روق عن الرياش عن الاصمعى عن أبى عمرو قال: خرج عهد عبد الملك الى الحجاج: وليتك المصرين والفوجين وعمان والبحرين، فسر اليها قصير العذار «2» ، كميش الإزار، «3» واضغط الكوفة والبصرة، والفوجان سجستان.
والحجاج أول من حبس الرجال مع النساء فى قيد واحد، ووثاق قد شد، وأمر السياسة متشبه فيه بزياد، وكان من قتل أكثر ممن قتل زيادا، وهاب الناس زيادا أكثر مما هابوا الحجاج. وذكر أنه قتل أكثر من مائة ألف رجل، أكثرهم لم يستحق القتل، ومات فى حبسه اثنا عشر ألف رجل أكثرهم لم يستحق الحبس، وأخرجوا وأخرج معهم أعرابى ذكر أنه حبس سبع سنين لانه بال فى أصل ربض واسط، «4» فلما انصرف قال:
اذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وصلّينا بغير حساب
مصادر و المراجع :
١- الأوائل
المؤلف: أبو هلال
الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)
الناشر: دار
البشير، طنطا
الطبعة: الأولى،
1408 هـ
12 يوليو 2024
تعليقات (0)