المنشورات

أول من اتخذ النيروز عيدا

أجمعت الفرس ان جم الملك أول من اتخذ النيروز «1» عيدا، وجعل تعظيمه دينا، وهو الذى بنى مدينة طوس «2» وقال النسابون: فى زمانه بعث الله تعالى هودا الى عاد، وصالحا الى ثمود، وولد قحطان أبو اليمن، وكان الدين قد تغير قبله، فلما ملك جدده وأظهر العدل، فسمى اليوم الذى ملك فيه نوروز- أى اليوم الجديد- ثم عربته العرب فقالوا: نيروز الحق ببناء طيقور وزعمت الفرس ان ذلك اليوم كان معظما عند أهل المعرفة قبل جم، لأنه اليوم الذى خلق الله فيه الخلق، قالوا: ولذلك جعل الله فى وقته ابتداء الشور النامى، «3» وهيج تناسل الحيوان وجعل المهرجان «4» دليل القيامة، لتناهى جمهور النامى فيه وانقطاع النماء عنه، ووقوف معظم الحيوان عن التناسل.
وذكروا ان سبب رفعهم النار فى ليلته قصدا لتحليل العفونات والزلوجات التى أبقاها الشتاء فى الهواء، وأرادة التنويه بذكره وشهرة أمره، ورش الماء فيه انما هو بمنزلة النشرة، «5» وهو أيضا تطهير مما قد انضاف الى الابدان من دخان النيران فى ليلته، وسبب اهداء السكر فيه ان قصب السكر ظهر فى زمن جم، ولم يعرف قبله، فوقع لبعض الناس ذواقه بالاتفاق، فلما وجد حلاوته احتال لاستخراج مائه وطبخه، فوقع الفراغ منه فى يوم النيروز، فأهداه الى الملك فيما أهدى اليه، فتبرك به وجعل اهداءه سنة، وكان الملك من ملوك الفرس يجلس فى النيروز، فيقوم رئيس الكتاب فيقول بعد الحمد لله ومدح الملك:
أيها الملك! الرفق يمن، والخرق «1» شؤم، وصالحوا الاعوان محتاجون الى ما يقيمهم فى أفعالهم، ويفضل عنهم لعطلتهم، فان ضيق عليهم كان معولهم على مال السلطان، فيكون من حيث يرتجى الربح يقع الخسران، وحيث تكون الخيانة، يكون التمحق، «2» وحيث الامانة، تتم البركة، والفجور يقلل قطر السماء، ومع الخيانة تعدم الزكاة، الخراج يدر الاموال، والاموال تكون الجنود، وبالجنود يقمع العدو، فيتم العدل، ثم يمسك.
ويقوم المؤيد، ويقدم هديته، فيثنى على الله ثم على الملك ويقول:
بقليل الغفلة يطول العناء، فأشرف على أمرك أيها الملك، حتى لا يستتر عليك ما تحتاج الى معرفته، قدم الحزم فى أمورك تتم وتسلم فى عواقبها، أكظم الغيظ تحمد مغبته فى أمرك، وكن برعيتك رءوفا، تكثر محبتهم لك، أصفح عن المسىء فليس كل الاوقات تدوم لك الطاعة، لا توقع فى غير موضع الايقاع فتظلم، «3» ولا تتركه فتستضعف لا يمزح بحضرتك فتنتقض جلالتك، ويجترىء الاخساء فى مجلسك، فتذهب هيبتك، ثم يجلس.
ويقوم الوزير، ويقدم هديته، ويقول بعد الثناء على الله عز وجل ثم على الملك: بسط العدل، وتقويه الجند، واعطاء المستحق، وتأديب المسىء، ترغيب فى احسان من ليس محسنا، ويزع عن الاساءة من كل مسيئا، واذا انصرف المحسن عن بابك بغير مكافأة، والمسىء بغير عقوبة، أو شك الا يرى فيه محسن ولا يغيب عنه المسىء، بدرور «4» الارزاق تصفو ضمائر الاجناد، وببسط العدل تكثر العمارة، وبتوفر الخراج تسلم قلوب الرعية، ثم يجلس.
ويقوم رأس المرازية، ويقدم هديته، ويقول بعد الثناء على الله تعالى ثم على الملك: الجنود جناح الملك، وسداد الثغر، ومفاتيح الحصون، وبهم قمع الاعداء ورفع الاولياء، وحقيق برفع المنزلة، واسناد العطية من بذل دمه، ولم يضن عن الملك بنفسه، بالسرور تكون النجدة، وبالسرور تكون الكفاية، وبحق أقول: ان حسم العادة، ومنع الواجب مما يوغر الصدر حتى يصير الولى عدوا فيحتاج الى الاحتراس ممن يحترس به، ثم يقدم الناس هداياهم، فيأمر بالخلع والجوائز، ومكافأة كل مهد على قدره.
وكان من سير ملوكهم ان يتأملوا هدايا الاولياء، ويعرفوا مقاديرها، ويأمروا باثباتها فى الديوان، فمن أهدى مالا يترقب أحواله، فاذا اتفق له او لاقاربه أعراس أو املاك أو غير ذلك مما يحتاج فيه الى نفقة أضعف له قيمة ما أهداه أضعافا مضاعفة وحمل إليه، ومن أهدى سهما حمل له من فاخر الثياب ما يعلوا السهم اذا أقيم، ومن أهدى تفاحة أو أترجه أعطى زنتها ذهبا، أو غرز فيها الدنانير حتى تعمها، وتحمل اليه، ومن أغفل مكافأته على ما أهداه لعارض يعرض ثم لا يذكر بنفسه دفع حقه الى عدوه وحرم منه.













مصادر و المراجع :      

١- الأوائل

المؤلف: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)

الناشر: دار البشير، طنطا

الطبعة: الأولى، 1408 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید