المنشورات

حيِّ الديار بعاقل فالأنعم ... كالوحي في رقّ الزَّبور المعجم

قال يمدح الوليد بن عبد الملك، ويذكر هدم الكنيسة: وذلك أن الوليد دخل مسجد الجامع، فصلى العصر بدمشق، فسمع قراءة النصارى في كنيستهم، وكانت إلى جنب المسجد وذلك أن دمشق فتح بعضها عنوة وبعضها بالصلح، فكان المسجد في الجانب الصلح، فلم يمكنهم هدم الكنيسة لحال الصلح، فلما هدمها الوليد بيده، ثم أمر بهدمها، أضافها إلى المسجد، وأنفق عليه أربعين ألف ألف. فكتب إليه ملك الروم: إنك قد هدمت كنيسة قد كان من قبلك تركها، فإن كانوا أصابوا فقد أخطأت، وإن كانوا أخطأوا فقد أصبت. فبعث إلى الزُّهري يسأل عن الجواب في هذا.
فقال: اكتب إليه قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث والغنم. فلما قام عمرو بن عبد العزيز أتاه النصارى فتظلموا إليه من الصلاة في كنيستهم، وأنهم لا يحلون له الصلاة فيها فقال: أمهلوني إلى غد. فاستشار في ذلك، فقيل له: هذه كنائس في الجانب المأخوذ عنوة، فادعهم إلى بناء الكنيسة كما كانت، واهدم تلك الكنائس فابنها مساجد. فلما أتوه، عرض هذا عليهم، وقال لهم: نحن نهدم الكنائس التي أخذناها عنوة، ونعيد هذا المسجد كنيسة كما كان. قالوا: لا، ولكنا نصفح عن المسجد، ونحل الصلاة فيه، واتركوا لنا كنائسنا، ففعل، فقال جرير:
1 حيِّ الديار بعاقل فالأنعم ... كالوحي في رقّ الزَّبور المعجم
عاقل: واد لبني أبان بن دارم. والأنعم: بالعالية. يقال أعجمت الكتاب أعجمه: إذا نقطته.
2 طلل تجرُّ به الرياح سواريا ... والمدجنات من السِّماك المرزم
أبو عبد الله: المرزم، ويروى: المرزم. السواري: التي تأتيها ليلًا، والمدجنات: الأسمية المواطر، وهي جماعة سماء. يريد ما أمطر بنوء السِّماك، والمرزم مرزم السماك: وهو منزل القمر، والمرزم: الكثير الرعد.
3 عفَّى المنازل كلُّ جون ماطر ... وكل معصفة حصاها يرتمي
عفَّى: درس. والجون ها هنا السحاب الأسود. والمعصفة: الريح الشديدة الهبوب، ويقال: أعصفت الريح وعصفت وهي معصفة وعاصف، ويقال أعصفت الناقة في سيرها: إذا أسرعت. روى عمارة: كل جون قاطر. وروى أيضًا: أو كل معصفة، فر من الزحاف
4 أصرمت حاجتك التي قضَّيتها ... ومع الظعائن حاجة لم تصرم
صرمت: قطعت. والظعائن: النساء في الهوادج.
5 بقر أوانس لم تصب غرَّاتها ... نبل الرُّماة ولا رماح المستمي
الأسماء: أن تؤتى الوحش في كنسها في أشد ما يكون من الحر، فتهيج حتى تخرج منها، ثم يتنحى عنها حتى تعود، يفعل بها ذلك مرارًا حتى تهرج فلا تفارق الكنس، ثم يهجم عليها فيطعن أو يرمى الظباء وهي تكذب أعينها وتصدق أنفها. عمارة: لم تصب غراته.
6 أخلفن كلَّ متيَّم منَّينه ... وجفون منزلة الرهين المغرم
7 إن البغيض له منازل عندنا ... ليست كمنزلة المحب المكرم
8 ما نظرةٌ لك يوم تجعل دونها ... فضل الرداء وتتقى بالمعصم
أراد: أيُّ نظرة، تعجبًا، كما قال النابغة:
سقط النصيف ولم يرد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
9 ولقد قطعت مجاهلا ومناهلا ... وجمام آجنها كلون العندم
المجاهل: الأرض المجهولة لا علم بها. والمناهل: المياه. والاجن: المتغير. وجمامها: ما اجتمع من مائها، يقال: جم الماء يجم جمومًا، وجم الفرس يجمُّ جمامًا، وجمام المكّوك إذا كان مستويًا، وجمامه أعلاه. والعندم: البقَّم.
10 وإذا المطوَّق باض في أرجائها ... حسبت نقائضه فلاق الحنتم
المطوق: الحمام، وأرجاء البئر: نواحيها ونقائضه: ما انقاض من قشر بيضه، وقشر البيض هو القيض بعينه. والحنتم: الكيزان الحمر والخضر.
11 إن الوليد خليفة لخليفة ... رفع البناء على البناء الأعظم
12 فعلا بناؤكم الذي شرفتم ... ولكم أباطح كل واد مفعم
13 كم قد قطعت إليك من ديمومة ... يهماء غفل ليلها كالأيهم
الديمومة: الأرض البعيدة التي يدوم فيها السير لبعدها. واليهماء. الملساء لا علم فيها، وكذاك الغفل، والأيهم: مشتق من الحجر الأملس. وقال عمارة: الأيهم: البحر، شبه سواد الليل بالبحر وظلمته.
14 وتركت ناجية المهارى زاحفًا ... بعد الزِّورَّة والجلال الأحزم
الناجية: السريعة. والزاحف: الكليلة، يقال: زحف وأزحف وهو مزحف وزاحف والزِّورَّة: السريعة. والجلال: المسنّ. والأحزم: العظيم الصدر.
15 إن الوليد هو الإمام المصطفى ... بالنصر لز لواؤه والمغنم
16 ذو العرض قدَّر أن تكون خليفة ... ملِّكت فاعل على المنابر واسلم
17 ورث الأعنة والأسنة وانتمى ... في بيت مكرمة رفيع السُّلم
18 ورأيت أبنية خوت وتهدمت ... وبناء عرشك خالد لم يهدم
يعني الخلافة: أن قومًا طلبوها ففاتتهم وثبتت لكم: عبد الله بن الزبير منهم، وخالد بن يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد الأشدق ابن سعيد بن العاص.
19 نزل النجاة وحل حيث تمنَّعت ... أعياصه، فلكل خير ينتمي
النجاة: العلو. والأعياص: التفاف أغصان الشجر. النجاة: الارتفاع وهو من النجوة مأخوذ. ويروى: نزل النجاد: وهو جمع نجد: وهو ما ارتفع من الأرض. والأعياص: بنو أمية: العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص.
20 عرف البريّة أن كل خليفة ... من فرع عيصك كالفنيق المقرم
الفنيق: الفحل يفنَّق للضراب ولا يركب وكذلك المقرم.
21 خزم الأنوف وقاد كلَّ عمارة ... صعب القياد مخاطر لم يخزم
العمارة: القبيلة والجمع عمائر.
22 وبنو الوليد من الوليد بمنزل ... كالبدر حفَّ بواضحات أنجم
23 ولقد سموت إلى النصارى سموةً ... رجفت لوقعتها جبال الديلم
24 إن الكنيسة كان هدم بنائها ... قسرًا فكان هزيمة للأخرم
الأخرم: ملك من ملوك الروم.
25 فأراك ربُّك إذ كسرت صليبهم ... نور الهدى وعلمت ما لم تعلم
وروى عمارة: وعلمت ما لم نعلم.
26 وإذا الكتائب أعلمت راياتها ... وكأنهن عتاق طير حوَّم
حوم: تحوم على الشيء. وروى أبو عبد الله: أعلنت يعني أظهرت، وأعلمت: سومت. وعتاق الطير: سباعها.
27 نطح الرءوس بهامة فتفرقوا ... عنها وعظم فراشها لم يهزم
الفراش: عظام صغار إذا كسر الرأس تطايرت. ويهزم: يكسر.
28 مردى الحروب إذا الحروب توقدت ... وحيًا إذا كثرت عماد الرزَّم
الحيا: الخصب والغيث. والرُّزَّم: المهازيل، تنهض هزالا فترفع
بالعمد لهزالها حتى تقوم، واحدها رازم، وكذلك الرُّزَّح واحدها رازح، وقال الأعشى:
ومشى القوم بالعماد إلى الرَّز ... حي وأعيا المسيم أين المساق
المسيم: الراعي.
29 إني من المتنصِّفين سجالكم ... ينفحن من ثبج الفرات الأعظم
السجال: الدلاء فيها ماء. واحدها سجل، ولا يكون السجل سجلًا إلا وفيه ماء. والنفح: العطاء. وثبج الفرات: معظمه وأعلاه.
30 أرجو سوابق ذي فواضل منهم ... وأخاف صولة ذي شبول ضيغم
31 أشكو إليك وربما تكفونني ... عضَّ الزمان وثقل دين المغرم
32 برُّ البلاد مسخَّر يجبي لكم ... والبحر سخِّر بالجواري العوَّم
وروى عمارة؛ مسخر لجباتكم.
32 وترى الجفان يمدُّها قمع الذُّرا ... مدَّ الجداول بالأتىِّ المعفم
وروى عمارة: تمدُّ من قمع الذرا. قمعة السنام: أعلاه. والجداول: الأنهار، واحدها جدول، وكل نهر جار فهو أتى.
34 والقدر تنهم بالمحال وترتمي ... بالزور همهمة الحصان الأدهم
المحال: فقار الظهر واحدها محالة، والزَّور: الصدر. ونهيمها: صوت غليانها. همهمة الفرس دون صهيلة وهي مثل الحمحمة، والرجل يهمهم في حديثه نفسه بكلام لا يفهم وهي الهينمة والهتملة والهيلمة والرهسة والإهلاس والأحناج والإحلاج، فأما الحمحمة فهي في الصدر دون اللسان.














مصادر و المراجع :      

١- ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب

المحقق: د. نعمان محمد أمين طه

الناشر: دار المعارف، القاهرة - مصر

الطبعة: الثالثة

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید