المنشورات

أتصحو بل فؤادك غير صاح ... عشية همَّ صحبك بالرواح

وقال يمدح عبد الملك:
قال أبو عقيل عمارة: كان جرير عند الحجاج بالعراق، وكان قد آمنه بعدما أخافه أشد الخوف، وكان قدم عليه وعلى الفرزدق - وهما يستبَّان سبع سنين، وجرير مقيم بالبصرة، وكان قومه بنو يربوع أرسلوا إليه: أنت مقيم بالبادية ليس عندك أحد يروي عنك، والفرزدق قد ملأ عليك العراق، فانحدر إلى جماعة الناس. فأنشد بالرجل كما ينشد بك. فانحدر فأقام بالبصرة، ولذلك قال:
لمَّا شهدت لثغر قومي مشهدًا ... آثرت ذاك على بنيّ ومالي
فأوجهه الحجاج، وملأ بمدحه الأرض بعد. وبلغ أهل الشام وأمير المؤمنين ورواه الناس.
ثم إن الحجاج أوفده مع ابنه محمد عاشر عشرة مع وجوه أهل العراق، وذلك بعدما أجازه بعشرة من الرقيق وأموال كثيرة، قال: فقدمنا على عبد الملك، فلما حضرنا الباب، دخل محمد علي عبد الملك فخطب بين يديه، ثم أجلسه على سريره عند رجليه. ثم دعانا رجلا رجلا، وكلنا له خطبة،فجعل كلما تكلم رجل قطع خطبته، وتكلم جرير، فقطع خطبته وقال: من هذا يا محمد؟
فقال: هذا يا أمير المؤمنين ابن الخطفي.
قال: أمادح الحجاج؟
قال: قلت نعم، ومادحك يا أمير المؤمنين، فأذن له أنشدك أبقاك الله.
قال: بل هات بالحجاج فاندفعت في قولي:
صبرت النفس يا أبي عقيل ... مجاهدة فكيف ترى الثوابا
ولو لم يرض ربك لم ينزِّل ... مع النصر الملائكة الغضابا
إذا سعر الخليفة نار حرب ... رأى الحجاج أثبها شهابا
قال: هو كذا. قال وورائي الأخطل جالسًا في الحلقة لا أراه أو حذائي. قال: ثم قال: هات بالحجاج فأنشدته:
طربت لعهد هيجته المنازل ... وكيف تصابى المرء والشيب شامل
قال: فما نزعت عنها حتى خيّّل إليَّ في وجه أمير المؤمنين الغضب. ثم قال: هات للحجاج، فأنشدته:
هاج الهوى لفؤادك المهتاج ... فانظر بتوضح باكر الأحداج
حتى أتيت على قولي:
من سدَّ مطَّلع النفاق عليهم ... أم من يصول كصولة الحجاج
أم من يغار على النساء حفيظة ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
قال: فتكلم الأخطل وقال: فأين أمير المؤمنين يا بن المراغة؟
قال: فعرفت أنه الأخطل، فذببت حيال وجهي بكمي، وقلت: اخسأ، ومضيت فيها حتى أنشدته إياها كلها. فقال أمير المؤمنين: اجلس، فجلست. ثم قال: قم يا أخطل، هات مديح أمير المؤمنين. فقام حذائي فأنشد أمدح الناس. فقال: أجدت، أنت مادحنا وأنت شاعرنا، فاركبه. قال: فرمى بردائه وكشف قميصه على منكبيه، ووضع يده على عنقي، فقلت: يا أمير المؤمنين إن النصراني الكافر لا يظهر على المسلم ولا يركبه. فقال أهل المجلس: صدق يا أمير المؤمنين. فقال: دعه. وانتقض المجلس، وخرجنا.
فدخل الوفد عليه ثمانية أيام مع محمد كلهن أحجب فلا أدخل. ثم دخلوا اليوم التاسع، فأخذوا جوائزهم، تم تهيئوا اليوم العاشر للدخول وتجهزوا للرحيل، فقال محمد: أبا حزرة ما لي لا أراك تجهز؟ فقلت: كيف وأمير المؤمنين عليّ ساخط؟ ما أنا ببارح أو يرضى عني! فلما دخل عيه يودعه، قال: يا أمير المؤمنين؛ إن ابن الخطفى مادحك وشاعرك ومادح الحجاج سيفك ويمينك قد لزمتنا له صحبة وذمام، فإن رأيت وقد أبى أن يخرج معنا وأنت عليه ساخط. أن تأذن له أن يودعك ويخرج معنا فعلت. فأذن لي. فلما سلمت عليه ودعوت له، قال: إنما أنت للحجاج.
قال: قلت: ولك يا أمير المؤمنين، وإنما الحجاج سيفك ويمينك، فأذن لي. فسكت ولم يأذن، فاندفعت فقلت:
أتصحو بل فؤادك غير صاح.
حتى فرغت منها، وعرفت أني إن لم أخرج بجائزة كان إسقاطي أبدًا. قال فقال: بل فؤادك! قال: ومضيت فيها:
عشية همَّ صحبك بالرواح
حتى بلغت الشكوى لأم حزرة وبنيها، وأتيت على قولي:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
قال: فضحك وجعل يقول: كذاك نحن. قال: فردَّها عليَّ! قال: فرددتها عليه.
فقال: ويحك أتراها ترويها مائة من الإبل؟ قال: قلت: نعم، إن كانت من نعم كلب! قال: وقد رأيت خمسمائة فريضة من نعم كلب مخضبة ذراها ثنيا وجذعًا تهيَّأ للخول.
قال: فقال: أخرجوها له من الفرائض التي جاءت من نعم كلب مائة عن عرض ولا ترذلوها. قال: فشكرت له وفدَّيته، وتشكَّر له أصحابي ومن شهدني من العرب، ثم قلت: يا أمير المؤمنين إنما نحن أشباح من أهل العراق، وليس في واحد منا فضل عن راحلته، وإنما الإبل أباق.
قال: فنجعل لك أثمانها رقة لك.
قلت: لا، ولكن الرعاء يا أمير المؤمنين.
قال: فنظر جنبتيه وقال لجلسائه: كم يجزى لمئة من الإبل؟
قال: فتكلموا على قدر الركاب والظهر، فقالوا: ثمانية! فأمر لي بها أربعة صقالبة وأربعة نوبة. قال: وإذا بعض الدهاقين قد أهدى له ثلاث صفحات من فضة فهن بين يديه يقرعهن بخيزرانة. قال: قلت: المحلب جعلني الله فداك. قال: فندس إلى إحداهن، وقال خذها لا نفعتك. قال: قلت: بلى، كل ما نلت منك نافع أبقاك الله. قال: وانصرفنا وودعنا. وقد كتب محمد يوم ودعنا، وأبرد إلى أبيه بالحديث كله. فلما قدمنا على الحجاج قال: أما والله يابن الخطفى لولا أن يبلغ أمير المؤمنين فيجد عليَّ في نفسه لأعطيتك مثلها، ولكن هذه خمسون وأحمالها حنطة تأتي بها أهلك وتميرهم ما عليها. فشكرت له ودعوت. قال: وعنده السوار بن عاصم النميري أخو بني جعونة - فتكلم بأمر لم أفطن له، كأنني كلمته فيه، فقال: وأي شيء أهون من ذلك؟
فقال الحجاج: وما يقول يا سوار؟
قال: قال: كيف أحمل هذا الطعام الذي أمر لي به الأمير؟
قال: ادع صاحب السقط! فقال: أخرج لها أقتابها وحبالها، واجعلوا أحلاسها وجواليقها العباء القطواني فإنه ينتفع بها أهل البادية.
قال: فخرجت من الغد محملة كما أمر بها، فأرسلت بها إلى الحي، وهو قوله في كلمته:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم منٌّ ولا سرف
وقال جرير:
1 أتصحو بل فؤادك غير صاح ... عشية همَّ صحبك بالرواح
2 تقول العاذلات علاك شيب ... أهذا الشيب يمنعني مراحي
3 يكلفني فؤادي من هواه ... ظعائن يجتزعن على رماح
الظعائن: النساء في هوادجهن. والاجتزاع: القطع. ورماح: موضع معروف.
4 ظعائن لم يدنَّ مع النصارى ... ولا يدرين ما سمك القراح
القراح: قرية بالبحرين، أي أنهن بدويات لسن بحضريات مهيَّجات.
5 فبعض الماء ماء رباب مزن ... وبعض الماء من سبخ ملاح
يريد أن فضل البدويات على الحضريات كفضل ماء السماء على السبخ. والرباب: السحاب المكفهرّ المتكاثف الذي ينظر إليه كأنه سحاب متعلق دون سحاب.
6 سيكفيك العواذل أرحبيُّ ... هيجان اللون كالفرد اللَّياح
الأرحى: نسبة إلى أرحب من همدان. والهجان: الأبيض. والفرد: الثور المنفرد. واللياح: الأبيض ويقال لِياح ولَياح ويقق ولهق وصرح.
7 يعزّ على الطريق بمنكبيه ... كما ابترك الخليع على القداح
يعزُّ: يغلب، يريد أنه يغلب الإبل على الطريق ويسبقها إليه، كما يلحُّ المقمور من ماله المخلوع منه على ضرب القداح يسترجع ماله.
8 تعزت أمُّ حزرة ثم قالت ... رأيت الموردين ذوي لقاح
الموردون: أصحاب الإبل يوردونها الماء.
9 تعلل - وهي ساغبة - بنيها ... بأنفاس من الشَّبم القراح
الساغبة: الجائعة. والنفس من الماء: ما كان مرويًا كافيًا. والشبم: البارد يقال منه شبم يشبم شبما، والشيم: البرد.
10 سأمتاح البحور فجبنيني ... أذاة اللوم وانتظري امتياحي
الميح: العطاء، يقال ماحه يميحه ميحًا، وامتحت فلانًا واستمحته بمعنى واحد وهي المياحة، ويقال جئناك للمياحة لا للرقاحة أي التجارة، ترقح المال: إصلاحه وأنشد:
يترك ما رقّح من عيشه ... يعيث فيه همج هامج
11 ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
12 أغثني يا فداك أبي وأمي ... بسيب منك إنك ذو ارتياح
الارتياح: التحرك للعطاء والهشاشة له.
13 وإني قد رأيت عليَّ حقًا ... زيارتي الخليفة وامتداحي
14 سأشكر أن رددت عليَّ ريشي ... وأثبتَّ القوادم في جناحي
القوادم: عشر الريشات التي في مقدم الجناح، وما فوق ذلك الخوافي.
15 ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
قوله "ألستم" أراد: أنتم.
16 وقومٍ قد سموت لهم فدانوا ... بدهم في ململمة رداح
الدهم: الجيش الكثير. والململمة: الكثيرة المجتمعة. والرداح: الضخمة. دانت له: أطاعت. والدين: الطاعة، والدين الجزاء، والدين: العادة، والدين: الإسلام.
17 أبحت حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح
يريد عبد الله بن الزبير، وقتله إياه وغلبته على ما كان في يديه.
18 لكم شمٌّ الجبال من الرواسي ... وأعظم سيل معتلج البطاح
اعتلاجه: كثرته وركوب بعضه بعضًا.
19 دعوت الملحدين أبا خبيب ... جماحًا هل شفيت من الجماح
أبو خبيب: عبد الله بن الزبير، والجماح: العناد، والعناد: الخلاف. والملحد: المخالف، ومن هذا لحد القبر لأنه في ناحية.
20 فقد وجدوا الخليفة هبرزيًّا ... ألفَّ العيص ليس من النواحي
الهبرزيّ: الخالص، والألفُّ، الملتف، والعيص: الشجر. يريد أنه من وسط العز ليس من نواحيه، وهذا مثل ضربه.
21 فما شجرات عيصك في قريش ... بعشَّات الفروع ولا ضواحي
العشَّات: الدقيقات، والضواحي: البادية العيدان لا ورق عليها، وأنشد:
تضحك مني أن رأتني عشَّا
لبست عصري عصري فامتشا
بشاشتي وعملا ففشا
عملا فغشا
22 رأى البصيرة فاستقاموا ... وبيَّنت المراض من الصِّحاح












مصادر و المراجع :      

١- ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب

المحقق: د. نعمان محمد أمين طه

الناشر: دار المعارف، القاهرة - مصر

الطبعة: الثالثة

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید