المنشورات

النظامية

أصحاب إبراهيم بن يسار بن هانئ النظام1، قد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، وانفرد عن أصحابه بمسائل:
الأولى منها: أنه زاد على القول بالقدر خيره وشره منا قوله: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة للباري تعالى، خلافا لأصحابه فإنهم قضوا بأنه قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة. ومذهب النظام أن القبيح إذا كان صفة ذاتية للقبيح، وهو المانع من الإضافة إليه فعلا؛ ففي تجويز وقوع القبيح منه قبح أيضا، فيجب أن يكون مانعا. ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم، وزاد أيضا على هذا الاختباط فقال: إنما يقدر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده، ولا يقدر على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس فيه صلاحهم. هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا. وأما أمور الآخرة فقال: لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئا، ولا على أن ينقص منه شيئا، وكذلك لا ينقثص من نعيم أهل الجنة ولا أن يخرج أحدا من أهل الجنة وليس ذلك مقدورا له. وقد ألزم عليه أن يكون الباري تعالى مطبوعا مجبورا على ما يفعله، فإن القادر1 على الحقيقة من يتخير بين الفعل والترك. فأجاب إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل، فإن عندكم يستحيل أن يفعله وإن كان مقدورا؛ فلا فرق. وإنما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث قضوا بأن الجواد لا يجوز أن يدخر شيئا لا يفعله. فما أبدعه وأوجده هو المقدور؛ ولو كان في علمه تعالى ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه نظاما وترتيبا وصلاحا لفعله.
الثانية: قوله في الإرادة: إن الباري تعالى ليس موصوفا بها على الحقيقة. فإذا وصف بها شرعا في أفعاله فالمراد بذلك أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم، وإذا وصف بكونه مريدا لأفعال العباد فالمعني به أنه آمر بها وناه عنها، وعنه أخذ الكعبي مذهبه في الإرادة.
الثالثة: قوله إن أفعال العباد كلها حركات فحسب، والسكون حركة اعتماد، والعلوم والإرادات حركات النفس, ولم يرد بهذه الحركة حركة النقلة وإنما الحركة عنده مبدأ تغير ما، كما قالت الفلاسفة من إثبات حركات في الكيف، والكم والوضع، والأين، والمتى ... إلى أخواتها.
الرابعة: وافقهم أيضا في قولهم إن الإنسان في الحقيقة هو النفس والروح، والبدن آلتها وقالبها. غير أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم فمال إلى قول الطبيعيين منهم إن الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقلب بأجزائه مدالخة المائية في الورد، والدهنية في السمسم، والسمنية في اللبن. وقال إن الروح هي التي لها قوة، واستطاعة وحياة ومشيئة، وهي مستطيعة بنفسها، والاستطاعة قبل الفعل.
الخامسة: حكى الكعبي عنه أنه قال: إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة؛ أي أن الله تعالى طبع الحجر طبعا، وخلقه خلقة إذا دفعته اندفع، وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكان طبعا. وله في الجواهر وأحكامها خبط ومذهب يخالف المتكلمين والفلاسفة.
السادسة: وافق الفلاسفة1 في نفي الجزء الذي لا يتجرا، وأحدث القول بالطفرة.
لما ألزم مشي نملة على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت ما لا يتناهى، فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟ قال: تقطع بعضها بالمشي، وبعضها بالطفرة. وشبه ذلك بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر، وطوله خمسون ذراعا، وعليه دلو معلق، وحبل طوله خمسون ذراعا علق عليه معلاق, فيجر به الحبل المتوسط، فإن الدلو يصل إلى رأس البئر وقد قطع مائة ذراع بحبل طوله خمسون ذراعا في زمان واحد، وليس ذلك إلا أن بعض القطع بالطفرة. ولم يعلم أن الطفرة قطع مسافة أيضا موازية لمسافة، فالإلزام لا يندفع عنه، وإنما الفرق بين المشي والطفرة يرجع إلى سرعة الزمان وبطئه.
السابعة: قال إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت. ووافق هشام بن الحكم في قوله إن الألوان والطعوم والروائح أجسام، فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضا، وتارة يقضي بكون الأعراض أجساما لا غير.
الثامنة: من مذهب أن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن: معادن ونباتا، وحيوانا، وإنسانا، ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده؛ غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض، فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور الفلاسفة وأكثر ميله أبدا إلى تقرير مذاهب الطبيعيين منهم دون الإلهيين.
التاسعة: قوله في إعجاز1 القرآن إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب عن الاهتمام به جبرا وتعجيزا، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما.
العاشرة: قوله في الإجماع إنه ليس بحجة في الشرع، وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حجة، وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم.
الحادية عشرة: ميله إلى الرفض، ووقيعته في كبار الصحابة، قال: أولا: لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهرا مكشوفا، وقد نص النبي عليه الصلاة والسلام على علي رضي الله عنه في مواضع، وأظهره إظهارا لم يشتبه على الجماعة، إلا أن عمر كتم ذلك، وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة، ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه السلام حين قال: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال: نعم، قال عمر فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال: هذا شك وتردد في الدين، ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم. وزاد في الفرية فقال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها، وكان يصبح: أحرقوا دارها بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين. وقال: تغريبه نصر بن الحجاج من المدينة إلى البصرة، وإبداعه التراويح، ونهيه عن متعة الحج، ومصادرته العمال، كل ذلك أحداث.
ثم وقع في أمير المؤمنين عثمان وذكر أحداثه، من رده الحكم بن أمية إلى المدينة وهو طريد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونفيه أبا ذر إلى الربذة، وهو صديق رسول الله، وتقليده الوليد بن عقبة الكوفة وهو من أفسد الناس، ومعاوية الشام، وعبد الله بن عامر البصرة، وتزويجه مروان بن الحكم ابنته، وهم أفسدوا عليه أمره، وضربه عبد الله بن مسعود على إحضار المصحف، وعلى القول الذي شاقه به، كل ذلك أحداثه.
ثم زاد على خزيه ذلك فأن عاب عليا وعبد الله بن مسعود لقولهما: أقول فيها برأيي. وكذب ابن مسعود في روايته: "السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه" وفي روايته انشقاق القمر، وفي تشبيهه الجن بالزط. وقد أنكر الجن رأسا، إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
الثانية عشرة: قوله في المفكر قبل ورود السمع إنه إذا كان عاقلا متمكنا من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال. وقال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعال. وقال: لابد من خاطرين، أحدهما يأمر بالإقدام، والآخر بالكف ليصح الاختيار.
الثالثة عشرة: قد تكلم في مسائل الوعد والوعيد، وزعم أن من خان في مائة وتسعة وتسعين درهما بالسرقة أو الظلم لم يفسق بذلك حتى تبلغ خيانته نصاب الزكاة وهو مائتا درهم فصاعدا، فحينئذ يفسق، وكذلك في سائر نصب الزكاة. وقال في المعاد إن الفضل على الأطفال كالفضل على البهائم.
ووافقه الأسواري1 في جميع ما ذهب إليه، وزاد عليه بأن قال إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله، ولا على ما أخبر أنه لا يفعله، مع أن الإنسان قادر على ذلك، لأن قدرة العبد صالحة للضدين، ومن المعلوم أن أحد الضدين واقع في المعلوم أنه سيوجد دون الثاني. والخطاب لا ينقطع عن أبي لهب وإن أخبر الرب تعالى بأنه سيصلى نارا ذات لهب.
ووافقه أبو جعفر الإسكافي2 وأصحابه من المعتزلة، وزاد عليه بأن قال: إن الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء، وإنما يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين.
وكذلك الجعفران: جعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب، وافقاه وما زادا عليه، إلا أنه جعفر بن مبشر قال: في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس، وزعم أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ، إذ المعتبر في الحدود: النص والتوقيف. وزعم أن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع عن الإيمان.
وكان محمد بن شبيب، وأبو شمر، وموسى بن عمران من أصحاب النظام، إلا أنهم خالفوه في الوعيد، وفي المنزلة بين المنزلتين، وقالوا: صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان إلا بمجرد ارتكاب الكبيرة. وكان ابن مبشر يقول في الوعيد: إن استحقاق العقاب والخلود في النار بالفكر يعرف قبل ورود السمع. وسائر أصحابه يقولون: التخليد لا يعرف إلا بالسمع.
ومن أصحاب النظام: الفضل الحدثي، وأحمد بن خابط، قال الراوندي: إنهما كان يزعمان أن للخلق خالقين: أحدهما قديم، وهو الباري تعالى. والثاني محدث وهو المسيح عليه السلام لقوله تعالى: {إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} 1 وكذبه الكعبي في رواية الحدثي خاصة لحسن اعتقاده فيه.












مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید