المنشورات

المعمرية:

أصحاب معمر2 بن عباد السلمي، وهو من أعظم القدرية فرية في تدقيق القول بنفي الصفات، ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى، والتفكير والتضليل على ذلك، وانفرد عن أصحابه بمسائل:
منها أنه قال: إن الله تعالى لم يخلق1 شيئا غير الأجسام، فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام، إما طبعا كالنار التي تحدث الإحراق، والشمس التي تحدث الحرارة، والقمر الذي يحدث التلوين، وإما اختيارا كالحيوان يحدث الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق. ومن العجب أن حدوث الجسم وفناءه عنده عرضان، فكيف يقول إنهما من فعل الأجسام؟ وإذا لم يحدث الباري تعالى عرضا فلم يحدث الجسم وفناءه؟ فإن الحدوث عرض؛ فيلزمه أن لا يكون لله تعالى فعل أصلا، ثم ألزم أن كلام الباري تعالى إما عرض أو جسم، فإن قال هو عرض فقد أحدثه الباري، فإن المتكلم على أصله هو من فعل الكلام. أو يلزمه ألا يكون لله تعالى كلام هو عرض، وإن قال: هو جسم فقد أبطل قوله إنه أحدثه في محل الجسم لا يقوم بالجسم. فإذا لم يقل هو بإثبات الصفات الأذلية، ولا قال بخلق الأعراض؛ فلا يكون لله تعالى كلام يتكلم به على مقتضى مذهبه، وإذا لم يكن له كلام لم يكن آمرا ناهيا، وإذا لم يكن أمر ونهى لم تكن شريعة أصلا. فأدى مذهبه إلى خزي عظيم.
ومنها أنه قال إن الأعراض لا تتناهى في كل نوع، وقال كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام، وذلك يؤدي إلى التسلسل. وعنهذه المسألة سمي هو وأصحابه، أصحاب المعاني. وزاد على ذلك فقال: الحركة إنما خالفت السكون لا بذاتها، بل بمعنى أوجب المخالفة، وكذلك مغايرة المثل المثل ومماثلته، وتضاد الضد الضد، كل ذلك عنده بمعنى.
ومنها: ما حكى الكعبي عنه أن الإرادة من الله تعالى للشيء غير الله، وغير خلقه للشيء، وغير الأمر، والإخبار، والحكم. فأشار إلى أمر مجهول لا يعرف. وقال: ليس للإنسان فعل سوى الإرادة، مباشرة كانت أو توليدا، وأفعاله التكليفية من القيام والقعود، والحركة، والسكون في الخير والشر كلها مستندة إلى إرادته؛ لا على طريق المباشرة ولا على طريق التوليد، وهذا عجب. غير أنه إنما بناه على مذهبه في حقيقة الإنسان. وعنده: الإنسان معنى أو جوهر غير الجسد، وهو عالم، قادر، مختار، حكيم، ليس بمتحرك، ولا ساكن، ولا متكون، ولا متمكن، ولا يرى، ولا يمس، ولا يحس، ولا يجس، ولا يحل موضعا دون موضع، ولا يحويه مكان، ولا يحصره زمان؛ لكنه مدبر للجسد، وعلاقته مع البدن علاقة التدبير والتصرف. وإنما أخذ هذا القول من الفلاسفة، حيث قضوا بإثبات النفس الإنسانية أمرا ما، هو جوهر قائم بنفسه، لا متحيز ولا متمكن. وأثبتوا من جنس ذلك موجودات عقلية مثل العقول المفارقة. ثم لما كان ميل معمر بن عباد إلى مذهب الفلاسفة ميز بين أفعال النفس التي سماها إنسانا؟ وبين القالب الذي هو جسده؛ فقال: فعل النفس هو الإرادة فحسب، والنفس إنسان؛ ففعل الإنسان هو الإرادة؛ وما سوى ذلك من الحركات والسكنات والاعتمادات فهي من فعل الجسد.
ومنها: أنه يحكى عنه أنه كان ينكر القول بأن الله تعالى قديم، لأن قديم أخذ من قدم يقدم فهو قديم؛ وهو فعل كقولك أخذ منه ما قدم وما حدث. وقال أيضا: هو يشعر بالتقادم الزماني، ووجود الباري تعالى ليس بزماني.
ويحكى عنه أيضا أنه قال: الخلق غير المخلوق، والإحداث غير المحدث.
وحكى جعفر بن حرب عنه أنه قال: إن الله تعالى محال أن يعلم نفسه؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون العالم والمعلوم واحدا، ومحال أن يعلم غيره، كما يقال محال أن يقدر على الموجود من حيث هو موجود. ولعل هذا النقل فيه خلل؛ فإن عاقلا ما لا يتكلم بمثل هذا الكلام غير المعقول.
لعمري لما كان الرجل يميل إلى الفلاسفة، ومن مذهبهم: أنه ليس علم الباري تعالى علما انفعاليا، أي تابعا للمعلوم. بل علمه علم فعلي؛ فهو من حيث هو فاعل عالم، وعمله هو الذي أوجب الفعل، وإنما يتعلق بالموجود حال حدوثه لا محالة، ولا يجوز تعلقه بالمعدوم على استمرار عدمه، وأنه علم وعقل، وكونه عقلا، وعاقلا، ومعقولا شيء واحد. فقال ابن عباد: لا يقال: يعلم نفسه، لأنه قد يؤدي غلى تمايز بين العالم والمعلوم، ولا يعلم غيره؛ لأنه يؤدي إلى كون علمه من غيره يحصل. فإما أن لا يصح النقل، وإما أن يحمل على مثل هذا المحمل، ولسنا من رجال ابن عباد فنطلب لكلامه وجها.














 مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید