المنشورات

المشبهة:

اعلم أن السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنة التي عهدوها من الأئمة الراشدين ونصرهم جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر، وجماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن، تحبروا في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في متشابهات آيات الكتاب الحكيم، وأخبار النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.
فأما أحمد بن حنبل وداود1 بن علي الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث مثل: مالك بن أنس، ومقاتل2 بن سليمان، وسلكوا طريق السلامة فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل بعد أن علم قطعا أن الله عز وجل لا يشبه شيئا من المخلوقات، وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدره. وكانوا يحترزون عن التشبيه إلى غاية أن قالوا: من حرك يده عند قراءة قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3 أو أشار بأصبعيه عند روايته: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" وجب قطع يده وقلع أصبعيه. وقالوا: إنما توقفنا في تفسير الآيات وتأويلها لأمرين:
أحدهما: المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 4 فنحن نحترز عن الزيغ.
والثاني: أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، والقول في صفات الباري بالظن غير جائز. فربما أولنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ، بل نقول كما قال الراسخون في العلم {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} آمنا بظاهره، وصدقنا بباطنه، ووكلنا علمه إلى الله تعالى ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك، إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه، واحتاط بعضهم أكثر احتياط حتى لو يقرأ اليد بالفارسية، ولا الوجه، ولا الاستواء، ولا ما ورد من جنس ذلك، بل إن احتاج في ذكره إلى عبارة عبر عنها بما ورد لفظا بلفظ. فهذا هو طريق السلامة، وليبس هو من التشبيه في شيء.
غير أن جماعة من الشيعة الغالية، وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل: الهاشميين من الشيعة، ومثل مضر، وكهمس، وأحمد الهجيمي وغيرهم من الحشوية. قالوا: معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض، إما روحانية، وإما جسمانية. ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن.
فأما مشبهة الشيعة فستأتي مقالاتهم في باب الغلاة.
وأما مشبهة الحشوية؛ فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر، وكهمس، وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة؛ إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض.
وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا، وأن يزوره ويزورهم. وحكى عن داود الجواربي أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك، وقال: إن معبوده جسم، ولحم، ودم. وله جوارح وأعضاء من يد، ورجل، ورأس، ولسان، وعينين، وأذنين، ومع ذلك جسم لا كالأجسام، ولحم لا كاللحوم، ودم لا كالدماء. وكذلك سائر الصفات، وهو لا يشبه شيئا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء، وحكي عنه أنه قال: هو أجوف من إعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك، وأن له وفرة1 سوداء، وله شعر قطط.
وأما ما ورد في التنزيل من الاستواء، والوجه، واليدين، والجنب، والمجيء، والإتيان والفوقية وغير ذلك فأجروها على ظاهرها، أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه السلام:"خلق آدم على صورة الرحمن" وقوله: "حتى يضع الجبار قدمه في النار" وقوله: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" وقوله: "خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا" وقوله: "وضع يده أو كفه على كتفي" وقوله: "حتى وجدت برد أنامله على كتفي" إلى غير ذلك؛ أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام.
وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه السلام، وأكثرها مقتبسة من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع، حتى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وأن العرش ليئط1 من تحته كأطيط الرحل الحديد، وأنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع.
وروى المشبهة عن النبي عليه السلام أنه قال: "لقيني ربي فصافحني وكافحني، ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله 2 ".
وزادوا على التشبيه قولهم في القرآن، إن الحروف والأصوات والرقوم المكتوبة قديمة أزلية، وقالوا: لا يعقل كلام ليس بحروف ولا كلم، واستدلوا بأخبار، منها ما رووا عن النبي عليه السلام: "ينادي الله تعالى يوم القيامة بصوت يسمعه الأولون والآخرون" ورووا أن موسى عليه السلام كان يسمع كلام الله كجر السلاسل. قالوا: وأجمعت السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال هو مخلوق فهو كافر بالله، ولا نعرف من القرآن إلا ما هو بين أظهرنا فنبصره ونسمعه ونقرؤه ونكتبه.
والمخالفون في ذلك:
أم المعتزلة فوافقونا على أن هذا الذي في أيدينا كلام الله، وخالفونا في القدم، وهم محجوجون بإجماع الأمة.
وأما الأشعرية فوافقونا على أن القرآن قديم، وخالفونا في أن الذي في أيدينا كلام الله، وهم محجوجون أيضا بإجماع الأمة: أما المشار إليه هو كلام الله. فأما إثبات كلام هو صفة قائمة بذات الباري تعالى لا نبصرها، ولا نكتبها، ولا نقرؤها، ولا نسمعها، فهو مخالفة الإجماع من كل وجه.
فنحن نعتقد أن ما بين الدفتين كلام الله، أنزله على لسان جبريل عليه السلام، فهو المكتوب في المصاحف، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ، وهو الذي يسمعه المؤمنون في الجنة من الباري تعالى بغير حجاب ولا واسطة، وذلك معنى قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 1 وهو قوله تعالى لموسى عليه السلام: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2 ومناجاته من غير واسطة حتى قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 3 وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} 4 وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن الله تعالى كتب التوراة بيده، وخلق جنة عدن بيده، وخلق آدم بيده" وفي التنزيل: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 5.
قالوا: فنحن لا نزيد من أنفسنا شيئا، ولا نتدارك بعقولنا أمرا لم يتعرض له السلف. قالوا: ما بين الدفتين كلام الله. قلنا: هو كذلك. واستشهدوا عليه بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 6 ومن المعلوم أنه ما سمع إلا هذا الذي نقرؤه. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 7 وقال: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 8 وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 9 وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 10 إلى غير ذلك من الآيات.
ومن المشبهة من مال إلى مذهب الحلولية، وقال: يجوز أن يظهر الباري تعالى بصورة شخص، كما كان جبريل عليه السلام ينزل في صورة أعرابي وقد تمثل لمريم بشرا سويا. وعليه حمل قول النبي عليه السلام: "رأيت ربي في أحسن صورة". وفي التوراة عن موسى عليه السلام: شافهت الله تعالى فقال لي كذا.
والغلاة من الشيعة مذهبهم الحلول.
ثم الحلول قد يكون بجزء، وقد يكون بكل؛ على ما سيأتي في تفصيل مذاهبهم إن شاء الله تعالى.














مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید