المنشورات

الكيسانية:

أصحاب كيسان1، مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقيل تلمذ للسيد محمد بن الحنفية رضي الله عنه. يعتقدون فيه اعتقادا فوق حده ودرجته، من إحاطته بالعلوم كلها، واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها من علم التأويل والباطن، وعلم الآفاق والأنفس.
ويجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل، حتى حملهم ذلك على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وغير ذلك على رجال. فحمل بعضهم على ترك القضايا الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الرجل، وحمل بعضهم على ضعف الاعتقاد بالقيامة، وحمل بعضهم على القول بالتناسخ والحلول، والرجعة بعد الموت. فمن مقتصر على واحد معتقد أنه لا يموت، ولا يجوز أن يموت حتى يرجع. ومن معتقد حقيقة الإمامة إلى غيره، ثم متحسر عليه، متحير فيه. ومن مدع حكم الإمامة؛ وليس من الشجرة.
وكلهم حيارى متقطعون. ومن اعتقد أن الدين طاعة رجل ولا رجل له فلا دين له، نعوذ بالله من الحيرة والحور بعد الكور2، رب اهدنا السبيل.
"أ" المختارية:
أصحاب المختار3 بن أبي عبيد الثقفي، كان خارجيا، ثم صار زبيريا، ثم صار شيعيا وكيسانيا، قال بإمامة محمد بن الحنفية بعد أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما. وقيل لا، بل عبد الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان يدعو الناس إليه، وكان يظهر أنه من رجاله ودعاته، ويذكر علوما مزخرفة بترهاته ينوطها به.
ولما وقف محمد بن الحنفية على ذلك تبرأ منه، وأظهر لأصحابه أنه إنما نمس على الخلق ذلك ليتمشى أمره، ويجتمع الناس عليه.
وإنما انتظم له ما انتظم بأمرين: أحدهما انتسابه إلى محمد بن الحنفية علما ودعوة والثاني: قيامه بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما، واشتغاله ليلا ونهارا بقتال الظلمة الذين اجتمعوا على قتل الحسين.
فمن مذهب المختار: أنه يجوز البداء على الله تعالى. والبداء له معان: البداء في العلم وهو أن يظهر له خلاف ما علم؛ ولا أظن عاقلا يعتقد هذا الاعتقاد.
والبداء في الإرادة، وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم.
والبداء في الأمر: وهو أن يأمر بشيء، ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف ذلك. ومن لم يجوز النسخ ظن أن الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة متناسخة.
وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء، لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام. فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة؛ فإن وافق كونه قوله، جعله دليلا على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال: قد بدا لربكم.
وكان لا يفرق بين النسخ والبداء؛ قال: إذا جاز النسخ في الأحكام، جاز البداء في الأخبار.
وقد قيل: إن السيد محمد بن الحنفية تبرأ من المختار حين وصل إليه أنه قد لبس على الناس أنه من دعاته ورجاله. وتبرأ من الضلالات التي ابتدعها المختار من التأويلات الفاسدة؛ والمخاريق المموهة.
فمن مخاريقه: أنه كان عنده كرسي قديم قد غشاه بالديباج، وزينه بأنواع الزينة وقال: هذا من ذخائر أمير المؤمنين على كرم الله وجهه، وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل. وكان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف ويقول: قاتلوا ولكم الظفر والنصرة، وهذا الكرسي محله فيكم محل التابوت في بني إسرائيل، وفيه السكينة والبقية، والملائكة من فوقكم ينزلون مددا لكم. وحديث الحمامات البيض التي ظهرت في الهواء، وقد أخبرهم قبل ذلك بأن الملائكة تنزل على صورة الحمامات البيض، معروف. والأسجاع التي ألفها أبرد تأليف مشهورة.
وإنما حمله على الانتساب إلى محمد بن الحنفية حسن اعتقاد الناس فيه، وامتلاء القلوب بمحبته، والسيد محمد بن الحنفية كان كثير العلم غزير المعرفة، وقاد الفكر، مصيب الخاطر في العواقب. قد أخبره أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن أحوال الملاحم وأطلعه على مدارج المعالم. وقد اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة، وقد قيل إنه كان مستودعا علم الإمامة حتى سلم الأمانة إلى أهلها. وما فارق الدنيا إلى وقد أقرها في مستقرها.
وكان السيد الحميري، وكثير عزة الشاعر من شيعته. قال كثير فيه:
ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء
وكان السيد الحميري أيضا يعتقد فيه أنه لم يمت، وأنه في حبل رضوى بين أسد ونمر يحفظانه. وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل، وأنه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وهذا هو أول حكم بالغيبة، والعودة بعد الغيبة حكم به الشيعة. وجرى ذلك في بعض الجماعة حتى اعتقدوه دينا، وركنا من أركان التشيع.
ثم اختلفت الكيسانية بعد انتقال محمد بن الحنفية في سوق الإمامة، وصار كل اختلاف مذهبا.
"ب" الهاشمية:
أتباع أبي هاشم بن محمد بن الحنفية. قالوا بانتقال محمد بن الحنفية إلى رحمة الله ورضوانه، وانتقال الإمامة منه إلى ابنه أبي هاشم. قالوا: فإنه أفضى إليه أسرار العلوم، وأطلعه على مناهج تطبيق الآفاق على الأنفس، وتقدير التنزيل على التأويل، وتصوير الظاهر على الباطن، قالوا: إن لكل ظاهر باطنا، ولكل شخص روحا، ولكل تنزيل تأويلا، ولكل مثال في هذا العالم حقيقة في ذلك العالم، والمنتشر في الآفاق من الحكم والأسرار يجتمع في الشخص الإنساني، وهو العلم الذي استأثر علي رضي الله عنه به ابنه محمد بن الحنفية، وهو أفضى ذلك السر إلى ابنه أبي هاشم، وكل من اجتمع فيه هذا العلم فهو الإمام حقا.
واختلفت بعد أبي هاشم شيعته خمس فرق:
1- فرقة قالت إن أبا هاشم مات منصرفا من الشام بأرض الشراة، وأوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وانجرت في أولاده الوصية حتى صارت الخلافة إلى بني العباس، قالوا: ولهم في الخلافة حق لاتصال النسب، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه العباس أولى بالوراثة.
2- وفرقة قالت إن الإمامة بعد موت أبي هاشم لابن أخيه الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية.
3- وفرقة قالت: لا، بل إن أبا هاشم أوصى إلى أخيه علي بن محمد، وعلي أوصى إلا ابنه الحسن، فالإمامة عندهم في بني الحنفية لا تخرج إلى غيرهم.
4- وفرقة قالت: إن أبا هاشم أوصى إلى عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي، وإن الإمامة خرجت من أبي هاشم إلى عبد الله، وتحولت روح أبي هاشم إليه، والرجل ما كان يرجع إلى علم وديانة؛ فاطلع بعض القوم على خيانته وكذبه، فأعرضوا عنه، وقالوا: بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وكان من مذهب عبد الله: أن الأرواح تتناسخ من شخص إلى شخص، وأن الثواب والعقاب في هذه الأشخاص، إما أشخاص بني آدم، وإما أشخاص الحيوانات. قال: وروح الله تناسخت حتى وصلت إليه وحلت فيه، وادعى الإلهية والنبوة معا، وأنه يعلم الغيب فعبده شيعته الحمقى، وكفروا بالقيامة لاعتقادهم أن التناسخ يكون في الدنيا، والثواب والعقاب في هذه الأشخاص. وتأويل قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} 1 الآية، على أن من وصل إلى الإمامة وعرفه ارتفع عن الحرج في جميع ما يطعم، ووصل إلى الكمال والبلاغ.
وعنه نشأت: الخرمية، والمزدكية بالعراق، وهلك عبد الله بخراسان، وافترقت أصحابه.
فمنهم من قال إنه حي لم يمت ويرجع.
ومنهم من قال بل مات وتحولت روحه إلى إسحاق بن زيد بن الحارث الأنصاري؛ وهم الحارثية الذي يبيحون المحرمات، ويعيشون عيش من لا تكليف عليه.
وبين أصحاب عبد الله بن معاوية، وبين أصحاب محمد بن علي خلاف شديد في الإمامة، فإن كل واحد منهما يدعي الوصية من أبي هاشم إليه، ولم يثبت الوصية على قاعدة تعتمد.
"جـ" البيانية:
أتباع بيان بن سمعان التميمي، قالوا بانتقال الإمامة من أبي هاشم إليه، وهو من الغلاة القائلين بإلهية أميرالمؤمنين علي رضي الله عنه، قال: حل في علي جزء إلهي، واتحد بجسده، فيه كان يعلم الغيب، إذ أخبر عن الملاحم وصح الخبر، وبه كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر، وبه قلع باب خيبر، وعن هذا قال: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية، ولا بحركة غذائية، ولكن قلعته بقوة رحمانية ملكوتية، بنور ربها مضيئة. فالقوة الملكوتية في نفسه كالمصباح في المشكاة، والنور الإلهي كالنور في المصباح. قال: وربما يظهر على في بعض الأزمان. وقال في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 2 أراد به عليا فهو الذي يأتي في الظلل، والرع صوته، والبرق تبسمه.
ثم ادعى بيان أنه قد انتقل إليه الجزء الإلهي بنوع من التناسخ، ولذلك استحق أنه يكون إماما وخليفة، وذلك الجزء هو الذي استحق به آدم عليه السلام سجود الملائكة.
وزعم أن معبوده على صورة إنسان عضوا فعضوا، وجزءا فجزءا. وقال: يهلك كله إلا وجهه لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 1.
ومع هذا الخزي الفاحش2 كتب إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر رضي الله عنهم ودعاه إلى نفسه. وفي كتابه "أسلم تسلم، ويرتقي من سلم، فإنك لا تدري حيث يجعل الله النبوة" فأمر الباقر أن يأكل الرسول قرطاسه الذي جاء به، فأكله، فمات في الحال وكان اسم ذلك الرسول عمر بن أبي عفيف.
وقد اجتمعت طائفة على بيان بن سمعان، ودانوا به وبمذهبه، فقتله خالد بن عبد الله القسري على ذلك، وقيل أحرقه والكوفي المعروف بالمعروف بن سعيد بالنار معا.
"د" الرازمية:
أتباع رزام بن رزم، ساقوا الإمامة من علي إلى ابنه محمد، ثم إلى ابنه هاشم، ثم منه إلى علي بن عبد الله بن عباس بالوصية، ثم ساقوها إلى محمد بن علي وأوصى محمد إلى ابنه: إبراهيم الإمام وهو صاحب أبي مسلم الذي دعا إليه وقال بإمامته،وهؤلاء ظهروا بخراسان في أيام أبي مسلم حتى قيل إن أبا مسلم كان على هذا المذهب، لأنهم ساقوا الإمام إلى أبي مسلم، فقالوا: له حظ في الإمامة، وادعوا حلول روح الإله فيه، ولهذا أيده على بني أمية حتى قتلهم عن بكرة أبيهم واصطلمهم1، وقالوا بتناسخ الأرواح.
والمقنع الذي ادعى الإلهية لنفسه على مخاريق أخرجها كان في الأول على هذا المذهب وتابعه مبيضة ما وراء النهر، وهؤلاء صنف من الخرمية دانوا بترك الفرائض وقالوا الدين معرفة الإمام فقط، ومنهم من قال: الدين أمران: معرفة الإمام، وأداء الأمانة، ومن حصل له الأمران فقد وصل إلى الكمال، وارتفع عنه التكليف، ومن هؤلاء من ساق الإمامة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من أبي هاشم محمد بن الحنفية وصية إليه؛ لا من طريق آخر.
وكان أبو مسلم صاحب الدولة على مذهب الكيسانية في الأول، واقتبس من دعاتهم العلوم التي اختصوا بها، وأحس منهم أن هذه العلوم مستودعة فيهم؛ فكان يطلب المستقر فيه، فبعث إلى الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنهما: إني قد أظهرت الكلمة، ودعوت الناس عن موالاة بني أمية إلى موالاة أهل البيت، فإن رغبت فيه، فلا مزيد عليك.
فكتب إليه الصادق رضي الله عنه: ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني.
فحاد أبو مسلم إلى العباس عبد الله بن محمد السفاح، وقلده أمر الخلافة.













مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید