المنشورات

أهل الفروع

الفصل السابع: أهل الفروع المختلفون في الأحكام الشرعية والاجتهادية
"أ" اعلم أن أصول الإجتهاد وأركانه أربعة:
الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وربما تعود إلى اثنين.
وإنما تلقوا صحة هذه الأركان؛ وانحصارها: من إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وتلقوا أصل الإجتهاد والقياس وجوزوا منهم أيضاً؛ فإن العلم قد حصل بالتواتر أنهم إذا وقعت حادثة شرعية؛ من حلال، أو حرام: فزعوا إلى الإجتهاد، وابتدءوا بكتاب الله تعالى؛ فإن وجدوا فيه نصا أو ظاهراً؛ تمسكوا به، وأجروا حكم الحادثة على مقتضاه؛ وإن لم يجدوا فيه نصاً أو ظاهراً: فزعوا إلى السنة؛ فإن روى لهم في ذلك خبر أخذوا به، ونزلوا على حكمه؛ وإن لم يجدوا الخبر فزعوا إلى الاجتهاد. فكانت أركان الاجتهاد عندهم: اثنين، أو ثلاثة؛ ولنا بعدهم: أربعة؛ إذ وجب علينا: الأخذ بمقتضى إجماعهم واتفاقهم، والجرى على مناهج اجتهادهم.
وربما كان إجماعهم على حادثة إجماعاً اجتهادياً، وربما كان إجماعاً مطلقاً لم يصرح فيه باجتهاد؛ وعل الوجهين جميعاً: فالإجماع حجة شرعية؛ لإجماعهم على التمسك بالإجماع على التمسك بالإجماع. ونحن نعلم: أن الصحابة رضي الله عنهم، الذين هم الأئمة الراشدون: لا يجتمعون على ضلال؛ وقد قال النبي صلى الله عليع وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة".
ولكن الإجماع لا يخلو عن نص خفي أو جلى: قد اختصه؛ لأنا على القطع نعلم أن الصدر الأول لا يجتمعون على أمر إلا عن تثبت، وتوقيف؛ فإما أن يكون ذلك النص في نفس الحادثة التي اتفقوا على حكمها؛ من غير بيان ما يستند إليه حكمها، وإما أن يكون النص في أن الإجماع حجة، ومخالفة الإجماع بدعة.
وبالجملة: مستند الإجماع نص خفي أو جلي لا محالة؛ وإلا فيؤدي إلى إثبات الأحكام المرسلة. ومستند الاجتهاد والقياس هو: الإجماع وهو أيضاً مستند إلى نص مخصوص في جواز الاجتهاد. فرجعت الأصول الأربعة في الحقيقة إلى اثنتين، وربما ترجع إلى واحد؛ وهو قول الله تعالى.
وبالجملة: نعلم قطعاً ويقيناً أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات: مما لا يقبل الحصر والعد؛ ونعلم قطعاً أيضاً أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور ذلك أيضاً؛ والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية؛ وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعاً أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار؛ حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد.
ثم لا يجوز أن يكون الاجتهاد مرسلاً: خارجاً عن ضبط الشرع؛ فإن القياس المرسل شرع آخر، وإثبات حكم من غير مستند وضع آخر، والشارع هو الواضع للأحكام؛ فيجب على المجتهد أن لا يعدل في اجتهاده عن هذه الأركان.
"ب" وشرائط الاجتهاد خمسة:
1- معرفة قدر صالح من اللغة؛ بحيث يمكنه فهم لغات العرب؛ والتمييز بين الألفاظ الوضعية والاستعارية، والنص والظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، وفحوى الخطاب، ومفهوم الكلام، ومايدل على مفهومه بالمطابقة، وما يدل بالتضمن، وما يدل بالاستتباع؛ فإن هذه المعرفة كالآلة التي بها يحصل الشيء؛ ومن لم يحكم الآلة والأداة لم يصل إلى تمام الصنعة.
2- ثم معرفة تفسير القرآن؛ خصوصاً ما يتعلق بالأحكام، وما ورد من الأخبار في معاني الآيات، وما رؤى من الصحابة المعتبرين: كيف سلكوا مناهجها؟ وأي معنى فهموا من مدارجها؟ ولو جهل تفسير سائر الآيات التي تتعلق بالمواعظ والقصص قيل: لم يضره ذلك في الاجتهاد؛ فإن من الصحابة من كان لا يدري تلك المواعظ، ولم يتعلم بعد جميع القرآن؛ وكان من أهل الاجتهاد.
3- ثم معرفة الأخبار: بمتونها، وأسانيدها؛ والإحاطة بأحوال النقلة، والرواة: عدولها، وثقاتها، ومطعونها، ومردودها؛ والإحاطة بالوقائع الخاصة فيها، وما هو عام ورد في حادثة خاصة، وما هو خاص عمم في الكل حكمه. ثم الفرق بين: الواجب، والندب، والإباحة، والحظر، والكراهة؛ حتى لا يشذ عنه وجه من هذه الوجوه، ولا يختلط عليه باب بباب.
4- ثم معرفة مواقع إجماع الصحابة، والتابعين، وتابع التابعين من السلف الصالحين؛ حتى لا يقع اجتهاده في مخالفة الإجماع.
5- ثم التهدي1 إلى مواضع الأقيسة، وكيفية النظر والتردد فيها: من طلب أصل أولاً، ثم طلب معنى مخيل يستنبط منه؛ فيعلق الحكم عليه، أو شبه يغلب على الظن، فيلحق الحكم به.
فهذه: خمس شرائط، لابد من مراعاتها؛ حتى يكون المجتهد مجتهداً واجب الاتباع والتقليد في حق العامي، وإلا؛ فكل حكم لم يستند إلى قياس واجتهاد مثل ما ذكرنا؛ فهو مرسل مهمل.
قالوا: فإذا حصل المجتهد هذه المعارف: ساغ له الاجتهاد، ويكون الحكم الذي أدى إليه اجتهاده سائغاً في الشرع، ووجب على العامي تقليده، والأخذ بفتواه. وقد استفاض2 الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: "يا معاذ! بم تح كم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه".
وقد روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، قلت: يا رسول الله! كيف أقضي بين الناس وأنا حدث السن؛ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على صدري، وقال: اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه؛ فما شككت بعد ذلك في قضاء بين اثنين".














 مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید