المنشورات

اليهود خاصة

هاد الرجل: أي رجع وتاب؛ وإنما لزمهم هذا الاسم؛ لقول موسى عليه السلام: - {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك} - أي رجعنا وتضرعنا.
وهم أمة موسى عليه السلام، وكتابهم التوراة، وهو أول كتاب نزل من السماء؛ أعني أن ما كان ينزل على إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام ما كان يسمى كتاباً، بل صحفاً. وقد ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده" فأثبت لها اختصاصاً آخر سوى سائر الكتب. وقد اشتمل ذلك على أسفار. فيذكر مبتدأ الخلق في السفر الأول. ثم يذكر الأحكام، والحدود، والأحوال، والقصص، والمواعظ، والأذكار في سفر سفر.
وأنزل عليه أيضاً الألواح على شبه مختصر ما في التوراة؛ تشتمل على الأقسام العلمية والعملية. قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً} 1 إشارة إلى تمام القسم العلمي {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 2 إشارة إلى تمام القسم العملي.
قالوا: وكان موسى عليه السلام قد أفضى بأسرار التوراة والألواح إلى يوشع بن نون وصيه وفتاه والقائم بالأمر من بعده ليفضي بها إلى أولاد هارون، لأن الأمر كان مشتركاً بينه وبين أخيه هارون عليهما السلام؛ إذ قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام في دعائه حين أوحى إليه أولاً: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} 3، وكان هو الوصي. فلما مات هارون في حال حياة موسى: انتقلت الوصية إلى يوشع بن نون وديعة؛ ليوصلها إلى شبير وشبر ابني هارون قراراً. وذلك أن الوصية والإمامة بعضها مستقر، وبعضها مستودع.
واليهود تدعي أن الشريعة لا تكون إلا واحدة، وهي ابتدأت بموسى عليه السلام وتمت به؛ فلم تكن قبله شريعة، إلا حدود عقلية، وأحكام مصلحية.
ولا يجيزوا النسخ أصلاً. قالوا: فلا يكون بعد شريعة أصلاً؛ لأن النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء على الله تعالى.
ومسائلهم تدور على جواز النسخ ومنعه. وعلى التشبيه ونفيه، والقول بالقدر، والجبر وتجويز الرجعة، واستحالتها.
أما النسخ فكما ذكرنا.
وأما التشبيه فلأنهم وجدوا التوراة ملئت من المتشابهات مثل الصورة، والمشافهة، والتكليم جهراً، والنزول على طور سينا انتقالاً، والاستواء على العرش استقراراً، وجواز الرؤية فوقاً وغير ذلك.
وأما القول بالقدر فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين في الإسلام فالربانيون كالمعتزلة فينا، والقراءون كالمجبرة والمشبهة.
وأما جواز الرجعة فإنما وقع لهم من أمرين أحدهما: حديث عزير عليه السلام إذ أماته الله مائة عام ثم بعثه، والثاني: حديث هارون عليه السلام، إذ مات في التيه. وقد نسبوا موسى إلى قتله بألواحه قالوا: حسده؛ لأن اليهود كانوا أميل إليه منهم إلى موسى. واختلفوا في حال موته: فمنهم من قال: إنه مات، وسيرجع. ومنهم من قال: غاب، وسيرجع.
واعلم أن التوراة قد اشتملت بأسرها على دلالات وآيات تدل على كون شريعة نبينا المصطفى عليه السلام: حقاً، وكون صاحب الشريعة صادقاً؛ بله ما حرفوه وغيروه وبدلوه، إما تحريفاً من حيث الكتابة، والصورة. وإما تحريفاً من حيث التفسير والتأويل.
وأظهرها ذكر إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل، ودعاؤه في حقه، وفي حق ذريته، وإجابة الرب تعالى إياه: إني باركت على إسماعيل وأولاده، وجعلت فيهم الخير كله، وسأظهرهم على الأمم كلها، وسأبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتي.
واليهود معترفون بهذه القضية، إلا أنهم يقولون: أجابه بالملك دون النبوة والرسالة.
وقد ألزمتهم أن الملك الذي سلمتم: أهو ملك بعدل وحق أم لا؟ فإن لم يكن بعدل أو حق، فكيف يمن على إبراهيم عليه السلام بملك في أولاده وهو جور وظلم؟ وإن سلمتم العدل والصدق من حيث الملك، فالملك يجب أن يكون صادقاً على الله تعالى فيما يدعيه ويقوله، وكيف يكون الكاذب على الله تعالى صاحب عدل وحق؟ إذ لا ظلم أشد من الكذب على الله تعالى؛ ففي تكذيبه تجويره، وفي التجوير رفع المنة بالنعمة، وذلك: خلف.
ومن العجب أن في التوراة: أن الأسباط من بني إسرائيل كانوا يراجعون القبائل من بني إسماعيل، ويعلمون أن في ذلك الشعب علماً لدنياً لم تشتمل التوراة عليه. وورد في التواريخ أن أولاد إسماعيل عليه السلام كانوا يسمون آل الله، وأهل الله، وأولاد إسرائيل: آل يعقوب، وآل موسى، وآل هارون. وذلك كسر عظيم.
وقد ورد في التوراة أن الله تعالى جاء من طور سيناء، وظهر بساعير، وعلن بفاران؛ وساعير جبال بيت المقدس؛ التي كانت مظهر عيسى عليه السلام. وفاران: جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت الأسرار الإلهية، والأنوار الربانية في الوحي، التنزيل، والمناجاة، والتأويل؛ على مراتب ثلاث: مبدأ، ووسط، وكمال؛ والمجيء أشبه بالمبدإ، والظهور أشبه بالوسط، والإعلان أشبه بالكمال؛ عبرت التوراة عن طلوع صبح الشريعة والتنزيل: بالمجيء من طور سينا، وعن طلوع الشمس: بالظهور على ساعير، وعن البلوغ إلى درجة الكمال بالاستواء والإعلان على فاران، وفي هذه الكلمات: إثبات نبوة المسيح عليه السلام، والمصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد قال المسيح في الإنجيل: ما جئت لأبطل التوراة، بل جئت لأكملها؛ قال صاحب التوراة: النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص؛ وأنا أقول: "إذا لطمك أخوك على خدك الأيمن فضع له خدك الأيسر".
والشريعة الأخيرة وردت بالأمرين جميعاً: أما القصاص؛ ففي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 1وأما العفو ففي قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 2.
ففي أحكام التوراة: أحكام السياسة الظاهرة العامة، وفي الإنجيل: أحكام السياسة الباطنة الخاصة، وفي القرآن أحكام السياستين جميعاً: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 3 إشارة إلى تحقيق السياسة الظاهرة، وقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 4 إشارة إلى تحقيق السياسة الباطنة. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "هو أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك".
ومن العجب أن من رأى غيره يصدق ما عنده، ويكمله ويرقيه من درجة إلى درجة، كيف يسوغ له تكذيبه؟ والنسخ في الحقيقة ليس إبطالاً؛ بل هو تكميل.
وفي التوراة: أحكام عامة، وأحكام خاصة، إما بأشخاص، وإما بأزمان. وإذا انتهى الزمان لم يبق ذلك لا محالة، ولا يقال إنه إبطال، أو بداء. كذلك ها هنا.
وأما السبت فلو أن اليهود عرفوا: لم ورد التكليف بملازمة السبت، وهو يوم أي شخص من الأشخاص؟ وفي مقابلة أية حالة من الأحوال؟ وجزئي أي زمان؟ عرفوا أن الشريعة الأخيرة حق، وأنها جاءت لتقرير السبت لا لإبطاله، وهم الذين عدو في السبت حتى مسخوا قردة خاسئين وهم يعترفون بذلك، وبأن موسى عليه السلام بنى بيتاً وصور فيه صوراً وأشخاصاً، وبين مراتب الصور، وأشار إلى تلك الرموز. ولكن لما فقدوا الباب، باب حطة؛ ولم يمكنهم التسور، على سنن اللصوص تحيروا تائهين، وتاهوا متحيرين؛ فاختلفوا على إحدى وسبعين فرقة.
ونحن نذكر منها أشهرها وأظهرها عندهم، ونترك الباقي هملاً. والله الموفق.


















مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید