المنشورات

رأي انكساغورس

وهو أيضا من أهل ملطية. رأي في الوحدانية مثل ما رأى تاليس, وخالفه في المبدأ الأول. قال إن مبدأ الموجودات هو جسم أول متشابه الأجزاء، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس، ولا ينالها العقل، منها كون الكون كله العلوي منه والسفلي، لأن المركبات مسبوقة بالبسائط، والمختلفات أيضا مسبوقة بالمتشابهات. أليست المركبات كلها إنما امتزجت وتركبت من العناصر، وهي بسائط متشابهة الأجزاء؟ وأليس الحيوان والنبات وكل ما يغتذي فإنما يتغذى من أجزاء متشابهة أو غير متشابهة، فتجتمع في المعدة فتصير متشابهة، ثم تجري في العروق والشرايين، فتستحيل أجزاء مختلفة مثل الدم واللحم والعظم.
وحكي عنه أيضا أنه وافق سائر الحكماء في المبدأ الأول: إنه العقل الفعال. غير أنه خالفهم في قوله إن الأول الحق تعالى ساكن غير متحرك. وسنشرح القول في السكون والحركة له تعالى، ونبين اصطلاحهم في ذلك.
وحكى فرفوريوس عنه أنه قال: إن أصل الأشياء جسم واحد موضوع الكل، لا نهاية له، ولم يبين ما ذلك الجسم أهو من العناصر؟ أم خارج عن ذلك؟ قال: ومنه تخرج جميع الأجسام والقوة الجسمانية والأنواع والأصناف.
وهو أول من قال بالكمون والظهور، حيث قدر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول، وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعا وصنفا ومقدارا وشكلا وتكاثفا وتخلخلا، كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة، والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة، والإنسان الكامل الصورة من النطفة المهينة، والطير من البيض، فكل ذلك ظهور عن كمون، وفعل عن قوة، وصورة عن استعداد مادة. وإنما الإبداع واحد، ولم يكن بشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول.
وحكي عنه أنه قال كانت الأشياء ساكنة، ثم إن العقل رتبها ترتيبا على أحسن نظام، فوضعها مواضعها من عال ومن سافل ومن متوسط، ثم من متحرك، ومن ساكن، ومن مستقيم في الحركة، ومن دائر، ومن أفلاك متحركة على الدوران، ومن عناصر متحركة على الاستقامة. وهذه كلها بهذا الترتيب مظهرات لما في الجسم الأول من الموجودات.
ويحكى عنه أن المرتب هو الطبيعة، وربما يقول: المرتب هو الباري تعالى. وإذا كان المبدأ الأول عنده ذلك الجسم، فمقتضى مذهبه أن يكون المعاد إلى ذلك الجسم. وإذا كانت النشأة الأولى هي الظهور، فيقتضي أن تكون النشأة الثانية هي الكمون. وذلك قريب من مذهب من يقول بالهيولى الأولى التي حدثت فيها الصور، إلا أنه أثبت جسما غير متناه بالفعل هو متشابه الأجزاء، وأصحاب الهيولى لا يثبتون جسما بالفعل. وقد رد عليه الحكماء المتأخرون في إثباته جسما مطلقا لم يعين له صورة سماوية أو عنصرية، وفي نفيه النهاية عنه، وفي قوله بالكمون والظهور، وفي بيانه سبب الترتيب وتعيينه المرتب. وإنما عقبت مذهبهم برأي تاليس، لأنهما من أهل ملطية، ومقاربان في إثبات العنصر الأول والصور فيه متمثلة، والجسم الأول والموجودات فيه كامنة.
وحكى أرسطوطاليس عنه: أن الجسم الذي تكون منه الأشياء غير قابل للكثرة. قال: وأومأ إلى أن الكثرة جاءت من قبل الباري تعالى وتقدس.
















مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید