المنشورات

رأي فيثاغورس

ابن منسارخس من أهل ساميا2. وكان في زمان سليمان النبي ابن داود عليهما السلام. قد أخذ الحكمة من معدن النبوة. وهو الحكيم الفاضل، ذو الرأي المتين، والعقل الرصين. يدعى أنه شاهد العوالم العلوية بحسه وحدسه، وبلغ في الرياضة إلى أن سمع حفيف الفلك، ووصل إلى مقام الملك، وقال: ما سمعت شيئا قط ألذ من حركاتها، ولا رأيت شيئا أبهى من صورها وهيئاتها.
قوله في الإلهيات:
قال: إن الباري تعالى واحد لا كالآحاد، ولا يدخل في العدد، ولا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس، فلا الفكر العقلي يدركه، ولا المنطق النفسي يصفه، فهو فوق الصفات الروحانية، غير مدرك من نحو ذاته، وإنما يدرك بآثاره وصنائعه وأفعاله. وكل عالم من العوالم يدركه بقدر الآثار التي تظهر في صنعته، فينعته ويصفه بذلك القدر الذي يخصه من صنعته، فالموجودات في العالم الروحاني قد خصت بآثار خاصة روحانية فتنعته من حيث تلك الآثار، والموجودات في العالم الجسماني قد خصت بآثار خاصة جسمانية فتنعته من حيث تلك الآثار. ولا نشك أن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جبل الحيوان عليها، وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فطر الإنسان عليها. فكل يصفه من نحو ذاته، ويقدسه عن خصائص صفاته.
ثم قال: الوحدة تنقسم إلى وحدة غير مستفادة من الغير، وهي وحدة الباري تعالى: وحدة الإحاطة بكل شيء وحدة الحكم على كل شيء وحدة تصدر عنها الآحاد في الموجودات والكثرة فيها، وإلى وحدة مستفادة من الغير، وذلك وحدة المخلوقات.
وربما يقول: الوحدة على الإطلاق تنقسم إلى وحدة قبل الدهر، ووحدة مع الدهر، ووحدة بعد الدهر وقبل الزمان، ووحدة مع الزمان. فالوحدة التي هي قبل الدهر هي وحدة الباري تعالى، والوحدة التي هي مع الدهر هي وحدة العقل الأول، والوحدة التي هي بعد الدهر وقبل الزمان هي وحدة النفس، والوحدة التي هي مع الزمان هي وحدة العناصر والمركبات.
وربما يقسم الوحدة قسمة أخرى فيقول: الوحدة تنقسم إلى وحدة بالذات، وإلى وحدة بالعرض. فالوحدة بالذات ليست إلا للمبدع للكل الذي منه تصدر الوحدانيات في العدد والمعدود، والوحدة بالعرض تنقسم إلى ما هو مبدأ العدد وليس داخلا في العدد، وإلى ما هو مبدأ للعدد وهو داخل فيه, فالأول كالواحدية للعقل الفعال، لأنه لا يدخل في العدد والمعدود، والثاني ينقسم إلى ما يدخل فيه كالجزء له، فإن الاثنين إنما هو مركب من واحدين، وكذلك كل عدد فهو مركب من آحاد لا محالة، وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إليه إلى أقل، وإلى ما يدخل فيه كاللازم له لا كالجزء فيه، وذلك لأن كل عدد أو معدود لن يخلو قط عن وحدة تلازمه، فإن الاثنين والثلاثة في كونهما أثنين وثلاثة واحدة، وكذلك المعدودات من المركبات والبسائط واحدة إما في الجنس، أو في النوع، أو في الشخص، كالجوهر في أنه جوهر على الإطلاق، والإنسان في أنه إنسان، والشخص المعين مثل زيد في أنه ذلك الشخص بعينه واحد، فلم تنفك الوحدة من الموجودات قط. وهذه وحدة مستفادة من وحدة الباري تعالى تلزم الموجودات كلها، وإن كانت في ذواتها متكثرة. وإنما شرف كل موجود بغلبة الوحدة فيه، فكل ما هو أبعد من الكثرة فهو أشرف وأكمل.
ثم إن لفيثاغورس رأيا في العدد والمعدود قد خالف فيه جميع الحكماء قبله، وخالفه فيه من بعده، وهو أنه جرد العدد عن المعدود تجريد الصورة عن المادة، وتصوره موجودا محققا، وجرد الصورة، وتحققها. وقال: مبدأ الموجودات هو العدد، وهو أول مبدع أبدعه الباري تعالى. فأول العدد هو الواحد، وله اختلاف رأي في أنه هل يدخل في العدد أم لا كما سبق. وميله الأكثر إلى أنه لا يدخل في العدد، فيبتدئ العدد من اثنين.
ويقول: هو منقسم إلى زوج وفرد، فالعدد البسيط الأول اثنان، والزوج البسيط الأول أربعة، وهو المنقسم بمتساويين، ولم يجعل الاثنين زوجا، فإنه لو انقسم لكان إلى واحدين، وكان الواحد داخلا في العدد، ونحن ابتدأنا في العدد من اثنين، والزوج قسم من أقسامه، فكيف يكون نفسه؟ والفرد البسيط الأول ثلاثة.
قال: وتتم القسمة بذلك، وما وراءه فهو قسمة القسمة، فالأربعة هي نهاية العدد، وهي الكمال، وعن هذا كان يقسم "بالرباعية" "لا، وحق الرباعية التي هي تدبر أنفسنا التي هي أصل الكلام" وما وراء ذلك فهو زوج الفرد، وزوج الزوج، وزوج الزوج والفرد.
ويسمي الخمسة عددا دائرا، فإنها إذا ضربتها في نفسها أبدا عادت الخمسة من الرأس.
ويسمي الستة عددا تاما، فإن أجزائها مساوية لجملتها.
والسبعة عددا كاملا، فإنها مجموع الزوج والفرد، وهي نهاية أخرى.
والثمانية مبتدأة مركبة من زوجين.
والتسعة من ثلاثة أفراد، وهي نهاية أخرى.
والعشرة من مجموع العدد من الواحد إلى الأربعة، وهي نهاية أخرى.
فللعدد أربع نهايات: أربعة، وسبعة، وتسعة، وعشرة. ثم يعود إلى الواحد فيقول: أحد عشر ... ويعد. والتركيبات فيما وراء الأربعة على أنحاء ستة:
فالخمسة على مذهب من لا يرى الواحد داخلا في العدد فهي مركبة من عدد وفرد. وعلى مذهب من يرى ذلك فهي مركبة من فرد وزوجين.
وكذلك الستة على الأول فمركبة من فردين, أو عدد وزوج. وعلى الثاني فمركبة من ثلاثة أزواج.
والسبعة على الأول فمركبة من فرد وزوج، وعلى الثاني فمركبة من فرد وثلاثة أزواج.
والثمانية على الأول فمركبة من زوجين، وعلى الثاني فمركبة من أربعة أزواج.
والتسعة على الأول فمركبة من ثلاثة أفراد، وعلى الثاني فمركبة من فرد وأربعة أزواج.
والعشرة على الأول فمركبة من عدد وزوجين أو زوج وفردين، وعلى الثاني فما يحسب من الواحد إلى الأربعة، وهو النهاية والكمال. ثم الأعداد الأخرى فقياسها هذا القياس. قال: وهذه هي أصول الموجودات.
ثم إنه ركب العدد على المعدود، والمقدار على المقدور، فقال: المعدود الذي فيه اثنينية وهو أصل المعدودات ومبدؤها هو العقل باعتبار أن فيه اعتبارين: اعتبارا من حيث ذاته وأنه ممكن الوجود بذاته، واعتباره من حيث مبدعه, وأنه واجب الوجود به، فقابله الاثنان. والمعدود الذي فيه ثلاثية هو النفس، إذ زاد على الاعتبارين اعتبارا ثالثا. والمعدود الذي فيه أربعية هو الطبيعة، إذ زاد على الثلاثة رابعا. وثم النهاية، أعني نهاية المبادئ، وما بعدها المركبات، فما من موجود مركب إلا وفيه من العناصر والنفس والعقل شئ إما عين أو أثر، حتى ينتهي إلى السبعة فيقدر المعدودات على ذلك وينتهي إلى العشرة، ويعد العقل والنفوس التسعة بأفلاكها التي هي أبدانها وعقولها المفارقة كالجوهر وتسعة أعراض. وبالجملة إنما يتعرف حال الموجودات من العدد والمقادير الأول، ويقول: الباري تعالى عالم بجميع المعلومات على طريق الإحاطة بالأسباب التي هي الأعداد المقادير، وهي لا تختلف، فعلمه لا يختلف.
وربما يقول: المقابل للواحد هو العنصر الأول كما قال أنكسيمانس, ويسميه الهيولي الأولي، وذلك هو الواحد المستفاد, لا الواحد الذي هو كالاحاد, وهو واحد، كل: تصدر عنه كل كثرة، وتستفيد الكثرة منه الوحدة التي تلازم الموجودات، ولا تفارقها ألبتة، كما قررنا. وذكر إن العنصر انفراد بوحدته ثم أفاضها على الموجودات، فلا يوجد موجود إلا وفيه من وحدته حظ على قدر استعداده، ثم من هداية العقل حظ على قدر قبوله، ثم من قوة النفس حظ على قدر تهيئته. وعلى ذلك آثار المبادئ في المركبات، فإن كل مركب لا يخلو عن مزاج ما، وكل مزاج لا يعرى عن اعتدال ما، وكل اعتدال عن كمال أو قوة كمال: إما طبيعي إلي هو مبدأ الحركة، وإما عن كمال نفساني هو مبدأ الحس. فإذا بلغ المزاج الإنساني إلى حد قبول هذا الكمال أفاض عليه العنصر وحدته، والعقل هدايته، والنفس نطقه وحكمته.
قال: ولما كانت التأليفات الهندسية مرتبة على المعادلات العددية عددناها أيضا من المبادئ. فصارت طائفة من الفيثاغوريين إلى أن المبادئ هي التأليفات الهندسية على مناسبات عددية، ولهذا صارت المتحركات السماوية ذات حركات متناسبة لحنية هي أشرف الحركات، وألطف التأليفات. ثم تعدوا من ذلك إلى الأقوال، حتى صارت طائفة منهم إلى أن المبادئ هي الحروف والحدود المجردة عن المادة، وأوقعوا الألف في مقابلة الواحد، والباء في مقابلة الاثنين, إلى غير ذلك من المقابلات.
ولست أدري! على أي لسان ولغة قدروها؟، فإن الألسن يختلف باختلاف الأمصار والمدن، أو على أي وجه من التركيب؟ فإن التركيبات أيضا مختلفة. فالبسائط من الحروف مختلف فيها، والمركبات كذلك، ولا كذلك العدد، فإنه لا يختلف أصلا.
وصارت جماعة منهم إلى أن مبدأ الجسم هو الأبعاد الثلاثة، والجسم مركب عنها، وأوقعوا النقطة في مقابلة الواحد، والخط في مقابلة الاثنين، والسطح في مقابلة الثلاثة، والجسم في مقابلة الأربعة. وراعوا هذه المقابلات في تراكيب الأجسام، وتضاعيف الأعداد.
ومما ينقل عن فيثاغورس: أن الطبائع أربعة، والنفوس التي فينا أيضا أربعة: العقل، والعلم، والرأي، والحواس. ثم ركب فيه العدد على المعدود. والروحاني على الجسماني.
قال الرئيس أبو علي الحسين بن سينا: وأمثل ما يحمل عليه هذا القول أن يقال: كون الشيء واحدا غير كونه موجودا أو إنسانا، وهو في ذاته أقدم منهما، فالحيوان الواحد لا يحصل واحدا إلا وقد تقدمه معنى الوحدة الذي صارا به واحدا، ولولاه لم يصح وجوده، فإذن هو الأشرف الأبسط الأول، وهذه صورة العقل، فالعقل يجب أن يكون الواحد من هذه الجهة، والعلم دون ذلك في الرتبة، لأنه بالعقل ومن العقل، فهو كالاثنين الذي يفتقر إلى الواحد ويصدر منه، وكذلك العلم يئول إلى العقل. ومعنى الظن والرأي عدد السطح، والحس عدد المصمت: أن السطح لكونه ذا ثلاث جهات هو طبيعة الظن الذي هو أعم من العلم مرتبة، وذلك لأن العلم يتعلق بمعلوم معين، والظن والرأي ينجذب إلى الشيء ونقيضه، والحس أعم من الظن، فهو المصمت أي الجسم له أربع جهات.
ومما نقل عن فيثاغورس أن العالم إنما ألف من اللحون البسيطة الروحانية. ويذكر أن الأعداد الروحانية غير منقطعة، بل أعداد متحدة تتجزأ من نحو العقل، ولا تتجزأ من نحو الحواس. وعد عوالم كثيرة. فمنه عالم هو سرور محض في أصل الإبداع وابتهاج وروح في وضع الفطرة، ومنه عالم هو دونه. ومنطقها ليس مثل منطق العوالم العالية، فإن المنطق قد يكون باللحون الروحانية البسيطة، وقد يكون باللحون الروحانية المركبة.
والأول يكون سرورها دائما غير منقطع. ومن اللحون ما هو ناقص في التركيب، لأن المنطق بعد لم يخرج إلى الفعل، فلا يكون السرور بغاية الكمال، لأن اللحن ليس بغاية الاتفاق.
وكل عالم فهو دون الأول بالرتبة، وتتفاضل العوالم بالحسن والبهاء والرتبة. والأخير ثقل العوالم وثقلها1 وسفلها، ولذلك لم يجتمع كل الاجتماع، ولم تتحد الصورة بالمادة كل الاتحاد، وجاز على كل جزء منه الانفكاك عن الجزء الآخر، إلا أن فيه نورا قليلا من النور الأول، فلذلك النور وجد فيه نوع ثبات، ولولا ذلك لم يثبت طرفة عين، وذلك النور القليل: جسم النفس والعقل الحامل لهما في هذا العالم.
وذكر أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله، وهو عالم صغير، والعالم إنسان كبير، ولذلك صار حظه من النفس والعقل أوفر، فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم وكيفية تأليفه، ومن ضيع نفسه ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود، وانحل عن رباط القدر والمقدور، وصار ضياعا هملا.
وربما يقول: النفس الإنسانية تأليفات عددية أو لحنية، ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان، والتذت بسماعها وطاشت، وتواجدت باستماعها وجاشت. ولقد كانت قبل اتصالها بالأبدان قد أبدعت من تلك التأليفات العددية الأولى، ثم اتصلت بالأبدان، فإن كانت التهذيبات الخلقية على تناسب الفطرة، وتجردت النفوس عن المناسبات الخارجة اتصلت بعالمها، وانخرطت في سلكها على هيئة أجمل وأكمل من الأول، فإن التأليفات الأولى قد كانت ناقصة من وجه حيث كانت بالقوة، وبالرياضة والمجاهدة في هذا العالم بلغت إلى حد الكمال خارجة من حد القوة إلى حد الفعل.
قال: والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكوات وسائر العبادات هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية. وربما يبالغ في تقرير التأليف حتى يكاد يقول: ليس في العالم سوى التأليف، والأجسام والأعراض تأليفات، والنفوس والعقول تأليفات.
ويعسر كل العسر تقرير ذلك! نعم! تقدير التأليف على المؤلف والتقدير على المقدر أمر يهتدي إليه ويعول عليه.
وكان خرينوس وزينون الشاعر متابعين لفيثاغورس على رأيه في المبدع والمبدع. إلا أنهما قالا: الباري تعالى أبدع النفس والعقل دفعة واحدة، ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما، وفي بدء ما أبدعهما أبدعهما لا يموتان. ولا يجوز عليهما الدثور والفناء.
وذكرا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس صارت في العالم الأعلى إلى مسكنها الذي يشاكلها ويجانسها، وكان الجسم الذي هو من النار والهواء جسمها في ذلك العالم مهذبا من كل ثقل وكدر.
فأما الجرم -الذي من الماء والأرض- فإن ذلك يدثر ويفنى، لأنه غير مشاكل للجسم السماوي، لأن الجسم السماوي لطيف لا وزن له ولا يلمس. فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم، لأنه أشد روحانية، وهذا العالم لا يشاكل الجسم، بل الجرم يشاكله. فكل ما هو مركب والأجزاء النارية والهوائية عليه أغلب كانت الجسمية أغلب، وكل ما هو مركب والأجزاء المائية والأرضية عليه أغلب كانت الجرمية أغلب. وهذا العالم عالم الجرم، وذلك العالم عالم الجسم. فالنفس في ذلك العالم تحشر في بدن جسماني لا جرماني دائما، لا يجوز عليه الفناء والدثور، ولذته تكون دائمة لا تملها الطباع والنفوس.
وقيل لفيثاغورس: لم قمت بإبطال العالم؟، قال: لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان، فإذا بلغها سكنت حركته. وأكثر اللذات العلوية هي التأليفات اللحنية، وذلك كما يقال: التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين وغذاء كل موجود هو مما خلق منه ذلك الموجود.
وأما هيراقليطس وأباسيس فقد كانا من الفيثاغوريين وقالا: إن مبدأ الموجودات هو النار، فما تكاثف منها وتحجر فهو الأرض، وما تحلل من الأرض بالنار صار ماء، وما تخلخل من الماء بالنار صار هواء، وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صار نارا. فالنار مبدأ، وبعدها الارض، وبعدها الماء، وبعدها الهواء، وبعدها النار. والنار هي المبدأ وإليها المنتهي، فمنها التكون وإليها الفساد.
وأما أبيفورس الذي تفلسف في أيام ديمقريطيس، فكان يرى أن مبادىء الموجودات أجسام تدرك عقلا، وهي كانت تتحرك من الخلاء في الخلاء، وزعم أن الخلاء لا نهاية له، وكذلك الأجسام لا نهاية لها، إلا أن لها ثلاثة أشياء: الشكل، والعظم، والثقل.
وديمقريطيس كان يرى أن لها شيئين: الشكل، والعظم فقط. وذكر أن تلك الأجسام لا تتجزأ، أي لا تنفعل ولا تتكثر، وهي معقولة أو متوهمة غير محسوسة، فاصطكت تلك الأجزاء في حركاتها اضطرارا واتفاقا، فحصل من اصطكاكها صور هذا العالم وأشكالها، وتحركت على أنحاء من جهات التحرك. وذلك هو الذي يحكي عنهم أنهم قالوا بالاتفاق، فلم يثبتوا لها صانعا أوجب الاصطكاك، وأوجد هذه الصور. وهؤلاء قد أثبتوا الصانع، وأثبتوا سبب حركات تلك الجواهر. وأما اصطكاكها فقد قالوا فيها بالاتفاق. فلزمهم حصول العالم بالاتفاق والخبط.
وكان لفيثاغورس تلميذان رشيدان:
يدعى أحدهما: فلنكس ويعرف بموزنوش, قد دخل فارس ودعا الناس إلى حكمة قيثاغورس، وأضاف حكمته إلى مجوسية القوم. ويدعى الآخر قلانوس دخل الهند، ودعا الناس إلى حكمة فيثاغورس أيضا، وأضاف حكمته إلى برهمية القوم. إلا أن المجوس كما يقال أخذوا جسمانية قوله، والهند أخذوا روحانية قوله.
ومما أخبر عنه فيثاغورس وأوصى به:
قال: إني عاينت هذه العوالم العلوية بالحس بعد الرياضة البالغة، وارتفعت عن عالم الطبائع إلى عالم النفس وعالم العقل، فنظرت إلى ما فيها من الصور المجردة، وما لها من الحسن والبهاء والنور، وسمعت ما لها من اللحون الشريفة والأصوات الشجية الروحانية.
وقال: إن ما في هذا العالم يشتمل على مقدار يسير من الحسن، لكونه معلول الطبيعة، وما فوقه من العوالم أبهى وأشرف وأحسن، إلى أن يصل الوصف إلى عالم النفس والعقل فيقف، فلا يمكن المنطق وصف ما فيها من الشرف والكرم والحسن والبهاء. فليكن حرصكم واجتهادكم على الاتصال بذلك العالم، حتى يكون بقاؤكم ودوامكم طويلا بعد ما نالكم من الفساد والدثور وتصيرون إلى عالم هو حسن كله، وبهاء كله، وسرور كله، وعز وحق كله, ويكون سروركم ولذتكم دائمة غير منقطعة.
وقال: من كانت الوسائط بينه وبين مولاه أكثر فهو في رتبة العبودية أنقص. وإذا كان البدن مفتقرا في مصالحه إلى تدبير الطبيعة، وكانت الطبيعة مفتقرة في تأدية أفعالها إلى تدبير النفس، وكانت النفس مفتقرة في اختيارها الأفضل إلى إرشاد العقل، ولم يكن فوق العقل فاتح إلا الهداية الإلهية.! فبالحري أن يكون المستعين بصريح العقل في كافة المصارف مشهودا له بفطنة الاكتفاء بمولاه، وأن يكون التابع لشهوة البدن، المنقاد لدواعي الطبيعة، المواتي لهوى النفس بعيدا من مولاه، ناقصا في رتبته.















مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید