المنشورات

رأي سقراط:

سقراط1 بن سفر نيسقوس الحكيم، الفاضل، الزاهد من أهل أثينية. وكان قد اقتبس الحكمة من فيثاغورس وأرسالاوس، واقتصر من أصنافها على الإلهيات والأخلاقيات، واشتغل بالزهد ورياضة النفس, وتهذيب الأخلاق، وأعرض عن ملذات الدنيا، واعتزل إلى الجبل، وأقام في غاربه2.
ونهى الرؤساء الذين كانوا في زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان، فثورا عليه الغاغة وألجأوا ملوكهم إلى قتله، فحبسه الملك، ثم سقاه السم. وقضيته معروفة.
قال سقراط: إن الباري تعالى لم يزل هوية فقط، وهو جوهر فقط. وإذا رجعنا إلى حقيقة الوصف، والقول فيه وجدنا المنطق والعقل قاصرين عن إكتناه وصفه، وحقيقته، وتسميته، وإدراكه، لأن الحقائق كلها من تلقاء جوهره، فهو المدرك حقا، والواصف لكل شيء وصفا، والمسمى لكل موجود اسما، فكيف يقدر المسمى أن يسميه اسما؟ وكيف يقدر المحاط أن يحيط به وصفا؟ فنرجع فنصفه من جهة آثاره وأفعاله، وهي أسماء وصفات، إلا أنها ليست من الأسماء الواقعة على الجوهر المخبرة عن حقيقته وذلك مثل قولنا: إله, أي واضع كل شيء. وخالق أي مقدر كل شيء، وعزيز أي ممتنع أن يضام. وحكيم أي محكم أفعاله على النظام, وكذلك سائر الصفات.
وقال: إن علمه، وقدرته، وجوده، وحكمته بلا نهاية، ولا يبلغ العقل أن يصفها، ولو وصفها لكانت متناهية.
فألزم عليه. إنك تقول إنها بلا نهاية ولا غاية، وقد نرى الموجودات متناهية!، فقال: إنما تناهيها بحسب احتمال القوابل، لا بحسب القدرة والحكمة, والجود، ولما كانت المادة لم تحتمل صورا بلا نهاية، فتناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب، بل لقصور في المادة. وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت: ذاتا، وصورة، وحيزا، ومكانا، إلا أنها لا تتناهى زمانا في آخرها إلا من نحو أولها، وإن لم يتصور بقاء شخص، فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص ببقاء الأنواع، وذلك بتجدد أمثالها، ليستحفظ الشخص ببقاء النوع، ويستبقي النوع بتجدد الأشخاص، فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية، ولا الحكمة تقف على غاية.
ثم إن من مذهب سقراط أن أخص ما يوصف به الباري تعالى هو كونه حيا، قيوما، لأن العلم، والقدرة، والجود، والحكمة: تندرج تحت كونه حيا، والحياة صفة جامعة للكل. والبقاء، والسرمد، والدوام، وحفظ النظام في العالم: تندرج تحت كونه قيوما، والقيومية صفة جامعة للكل. وربما يقول: هو حي ناطق من جوهره أي من ذاته، وحياتنا ونطقنا لا من جوهرنا، ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد، ولا يتطرق إلى حياته ونطقه تعالى وتقدس.
وحكى فلوطرخيس في المبادئ أنه قال: أصول الأشياء ثلاثة وهي العلة الفاعلة، والعنصر، والصورة، فالله تعالى هو الفاعل، والعنصر هو الموضوع الأول للكون والفساد، والصورة جوهر لا جسم. وقال: الطبيعة أمة للنفس، والنفس أمة للعقل، والعقل أمة للمبدع الأول، من أجل أن أول مبدع أبدعه المبدع الأول صورة العقل. وقال: المبدع لا غاية له ولا نهاية، وما ليس له نهاية ليس له شخص وصورة. وقال: اللانهاية في سائر الموجودات لو تحققت لكان لها صورة واقعة ووضع وترتيب، وما تحقق له صورة ووضع وترتيب صار متناهيا، فالموجودات ليست بلا نهاية، والمبدع الأول ليس بذي نهاية، ليس على أنه ذاهب في الجهات بلا نهاية، كما يتخيله الخيال والوهم، بل لا يرتقي إليه الخيال حتى يصفه بنهاية ولا نهاية، فلا نهاية له من جهة العقل، إذ ليس يحده، ولا من جهة الحس، فليس يحده. فهو ليس له نهاية، فليس له شخص وصورة خيالية وجودية حسية أو عقلية تعالى وتقدس.
ومن مذهب سقراط أن النفوس الإنسانية كانت موجودة قبل وجود الأبدان على نحو من أنحاء الوجود إما متصلة بكلها، وإما متمايزة بذواتها وخواصها، فاتصلت بالأبدان استكمالا واستدامة، والأبدان قوالبها وآلاتها، فتبطل الأبدان، وترجع النفوس إلى كليتها. وعن هذا وكان يخوف بالملك الذي حبسه أنه يريد قتله قال إن سقراط في حب1، والملك لا يقدر إلا على كسر الحب، فالحب يكسر، ويرجع الماء إلى البحر.
ولسقراط أقاويل في مسائل الحكمة العلمية والعملية.
ومما اختلف فيه فيثاغورس وسقراط: أن الحكمة قبل الحق، أم الحق قبل الحكمة؟ وأوضح القول فيه بأن الحق أعم من الحكمة، إلا أنه قد يكون جليا، وقد يكون خفيا. وأما الحكمة فهي أخص من الحق، إلا أنها لا تكون إلا جلية. فإذن: الحق مبسوط في العالم، مشتمل على الحكمة المستفيضة في العالم، والحكمة موضحة للحق المبسوط في العالم، والحق ما به الشيء، والحكمة ما لأجله الشيء.
ولسقراط أيضا الغاز1 ورموز ألقاها إلى تلميذه أرسجانس، وجلها في كتاب "فاذن". ونحن نوردها مرسلة معقودة:
منها قوله: عندما فتشت عن علة الحياة ألفيت الموت، وعندما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة.
ومنها: اسكت عن الضوضاء التي في الهواء، وتكلم بالليالي، حيث لا تكون أعشاش الخفافيش، وأسدد الخمس الكوي2، ليضيء مسكن العلة، واملا الوعاء طيبا، وأفرغ الحوض المثلث من القلال الفارغة، وأحبس على باب الكلام، وأمسك مع الحضرة اللجام الرخو لئلا تغضب، فترى نظام الكواكب، ولا تؤكل الأسود الذئب، ولا تجاوز الميزان، ولا تسوطن3 النار بالسكين ولا تجلس على المكيال، ولا تشم التفاحة، وأمت الحي تحيي بموته، وكن قاتله بالسكين4 المزينة لوالديه. واحذر الأسود ذا الأربع، ومن جهة العلة كن أرنبا، وعند الموت لا تكن نملة، وعندما تذكر دوران الحياة أمت الميت، لتكون ذاكرا، وكن صديق مفضض، ولا تكن صديق شرطي، ولا تكن مع أصدقائك قوسا، ولا تنعس على أبواب أعدائك، وأثبت على ينبوع واحد متكئا على يمينك، وينبغي أن تعلم أنه ليس زمان من الأزمنة يفقد فيه زمان الربيع، وافحص عن ثلاث سبل، فإذا لم تجدها فارض بأن تنام لها نوم المستغرق، واضرب الأترجة5 بالرمانة، واقتل العقرب بالصوم، وإن أحببت أن تكون ملكا، فكن حمار وحش. وليست السبعة بأكمل من الواحد، وبالإثني عشر اقتن اثني عشر، وازرع بالأسود واحصد بالأبيض، ولا تسلبن الإكليل ولا تهتكه، ولا تقفن راضيا بعدمك للخير وأنت موجود، ذلك لك في أربعة وعشرين مكانا، وإن سألك سائل أن تعطيه من هذا الغذاء فميزه، وإن كان مستحقا للغذاء المريء فأعطه وإن احتاج إلى غذاء يمينك فاصنعه، لأن اللون الذي يطلب كذلك من كمال الغذاء فهو للبالغين.
وقال: يكفي من تأجج النار نورها.
وقال له رجل: من أين لك أن هذا المشار إليه واحد؟ فقال: إني لأعلم أن الواحد بالإطلاق غير محتاج إلى الثاني، فمتى فرضته قرينا للواحد كنت كواضع ما لا يحتاج إليه ألبتة إلى جانب ما لا بد منه ألبتة.
وقال: الإنسان له مرتبة واحدة من جهة حده، وثلاث مراتب من جهة هيئته.
وقال: للقلب آفتان: الغم والهم، فالغم يعرض منه النوم، والهم يعرض منه السهر.
وقال: الحكمة إذا أقبلت خدمت الشهوات العقول. وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات.
وقال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.
وقال: ينبغي أن تغتم بالحياة، وتفرح بالموت، لأنا نحيا لنموت. ونموت لنحيا.
وقال: قلوب المغرقين في المعرفة بالحقائق منابر الملائكة، وبطون المتلذذين بالشهوات قبور الحيوانات الهالكة.
وقال: للحياة حدان أحدهما الأمل. والثاني الأجل فبالأول بقاؤها. وبالآخر فناؤها.
وقال: النفس الناطقة جوهر بسيط ذو سبع قوى يتحرك بها حركة مفردة وحركات مختلفة.
فأما حركتها المفردة: فإذا تحركت نحو ذاتها ونحو العقل، وأما حركاتها المختلفة: فإذا تحركت نحو الحواس الخمس.
واليونانيون بنوا ثلاثة أبيات على طوالع مقبولة.
أحدهما: بيت بأنطاكية على جبلها، وكانوا يعظمونه، ويقربون القرابين فيه، وقد خرب.
والثاني: من جملة الأهرام التي بمصر بيت كانت فيه أصنام تعبد، وهي التي نهاهم سقراط عن عبادتها.
والثالث: بيت المقدس الذي بناه داود وأتمه سليمان عليهما السلام، ويقال إن سليمان هو الذي بناه، والمجوس يقولون إن الضحاك بناه، وقد عظمه اليونانيون تعظيم أهل الكتاب إياه.















مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید