المنشورات

رأي أفلاطون الإلهي

أفلاطون1 بن أرسطن بن أرسطوقليس من أثينية، وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين، معروف بالتوحيد والحكمة. ولد في زمان أردشير بن دارا في سنة ست عشرة من ملكه، وفي سنة ست وعشرين من ملكه كان حدثا متعلما يتلمذ لسقراط، ولما اغتيل سقراط بالسم ومات قام مقامه، وجلس على كرسيه.
وقد أخذ العلم من سقراط, وطيماوس والغريبين: غريب أثينية, وغريب الناطس، وضم إليه العلوم الطبيعية والرياضية.
وحكى عنه قوم ممن شاهده وتلمذ له مثل أرسطو طاليس وطيماوس, وثاوفرسطيس أنه قال: إن للعالم محدثا مبدعا، أزليا، واجبا بذاته، عالما بجميع معلوماته على نعت الأسباب الكلية، كان قي الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل، إلا مثالا عند الباري تعالى، ربما يعبر عنه بالهيولى، وربما يعبر عنه بالعنصر، ولعله يشير إلى صور المعلومات في علمه تعالى.
قال: فأبدع العقل الأول، وبتوسطه النفس الكلية، وقد انبعثت عن العقل انبعاث الصورة في المرآة، وبتوسطهما العنصر.
ويحكى عنه: أن الهيولى التي هي موضوع الصور الحسية غير ذلك العنصر.
ويحكى عنه: أنه أدرج الزمان في المبادئ، وهو الدهر, وأثبت لكل موجود مشخص في العالم الحسي مثالا غير مشخص في العالم العقلي، ويسمى ذلك: المثل الأفلاطونية. فالمبادئ الأول بسائط، والمثل مبسوطات، والأشخاص مركبات، فالإنسان المركب المحسوس جزئي ذلك الإنسان المبسوط المعقول، وكذلك كل نوع من الحيوان والنبات والمعادن.
وقال: والموجودات في هذا العالم آثار الموجودات في ذلك العالم، ولا بد لكل أثر من مؤثر يشابهه نوعا من المشابهة.
قال: ولما كان العقل الإنساني من ذلك العالم أدرك من المحسوس مثالا منتزعا من المادة معقولا، يطابق المثال الذي في عالم العقل بكليته، ويطابق الموجود الذي في عالم الحس بجزئيته. ولولا ذلك لما كان لما يدركه العقل مطابقا مقابلا من خارج، فما يكون مدركا لشيء يوافق إدراكه حقيقة المدرك.
وقال: والعالم عالما: عالم العقل وفيه المثل العقلية والصور الروحانية. وعالم الحس وفيه الأشخاص الحسية والصور الجسمانية، كالمرآة المجلوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات فإن الصور فيها مثل الأشخاص، وكذلك العنصر في ذلك العالم مرآة لجميع صور هذا العالم يتمثل فيه جميع الصور كلها، غير أن الفرق أن المنطبع في المرآة الحسية صور خيالية يرى أنها موجودة تتحرك بحركة الشخص وليس في الحقيقة كذلك، وأن المتمثل في المرآة العقلية صور حقيقية روحانية هي موجودة بالفعل تحرك الأشخاص ولا تتحرك، فنسبة الأشخاص إليها كنسبة الصور في المرآة إلى الأشخاص، فلها الوجود الدائم، ولها الثبات القائم، وهي تتمايز في حقائقها تمايز الأشخاص في ذواتها.
قال: وإنما كانت هذه الصور موجودة كلية دائمة باقية، لأن كل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع, فقد كانت صورته في علم الأول الحق، والصور عنده بلا نهاية، ولو لم تكن الصور معه في أزليته, في علمه لم تكن لتبقى. ولو لم تكن دائمة بدوامها لكانت تدثر بدثور الهيولى. ولو كانت تدثر مع دثور الهيولى لما كانت على رجاء ولا خوف، ولكن لما صارت الصور الحسية على رجاء وخوف استدل به على بقائها، وإنما تبقى إذا كانت لها صور عقلية في ذلك العالم ترجو اللحوق بها وتخاف التخلف عنها.
قال: وإذا اتفقت العقلاء على أن هناك حسا ومحسوسا، وعقلا ومعقولا، وشاهدنا بالحس جميع المحسوسات، وهي محدودة ومحصورة بالزمان والمكان، فيجب أن نشاهد بالعقل جميع المعقولات، وهي غير محدودة ومحصورة بالزمان والمكان، فتكون مثلا عقلية.
ومما يثبته أفلاطون موجودات محققة بهذا التقسيم!
قال: إنا نجد النفس تدرك أمور البسائط والمركبات، ومن المركبات أنواعها وأشخاصها، ومن البسائط ما هي هيولانية وهي التي تعرى عن الموضوع، وهي رسوم الجزئيات مثل: النقطة، والخط، والسطح، والجسم التعليمي.
قال: وهذه الأشياء أشياء موجودة بذواتها، وكذلك توابع الجسم مفردة مثل: الحركة، والزمان، والمكان، والأشكال، فإنا نلحظها بأذهاننا بسائط مرة ومركبة مرة أخرى، ولها حقائق في ذواتها من غير حوامل ولا موضوعات. ومن البسائط ما ليست هي هيولانية مثل: الوجود، والوحدة، والجوهر. والعقل يدرك القسمين جميعا متطابقين عالمين متقابلين: عالم العقل وفيه المثل العقلية التي تطابقها الأشخاص الحسية، وعالم الحس وفيه المتمثلات الحسية التي تطابقها المثل العقلية. فأعيان ذلك العالم آثار في هذا العالم، وأعيان هذا العالم آثار في ذلك العالم، وعليه وضع الفطرة والتقدير، ولهذا الفصل شرح وتقرير.
وجماعة المشائين وأرسطوطاليس لا يخالفونه في إثبات هذا المعنى الكلي، إلا أنهم يقولون: هو معنى في العقل موجود في الذهن، والكلي من حيث هو كلي لا وجود له في الخارج عن الذهن، إذ لا يتصور أن يكون شيء واحد ينطبق على زيد وعلى عمرو وهو في نفسه واحد.
وأفلاطون يقول ذلك المعنى الذي أثبته في العقل يجب أن يكون له شيء يطابقه في الخارج فينطبق عليه، وذلك هو المثال الذي في العقل، وهو جوهر لا عرض، إذ تصور وجوده لا في موضوع، وهو متقدم على الأشخاص الجزئية تقدم العقل على الحس، وهو تقدم ذاتي وشرفي معا.
وتلك المثل هي مبادئ الموجودات الحسية منها بدأت، وإليها تعود.
ويتفرع على ذلك أن النفوس الإنسانية التي هي متصلة بالأبدان اتصال تدبير وتصرف كانت موجودة قبل وجود الأبدان، وكان لها نحو من أنحاء الوجود العقلي، وتمايز بعضها عن بعض تمايز الصور المجردة عن المادة بعضها عن بعض. وخالفه في ذلك تلميذه أرسطوطاليس ومن بعده من الحكماء، وقالوا أن النفوس حدثت مع حدوث الأبدان.
وقد رأيت في كلام أرسطوطاليس كما ستأتي1 حكايته, أنه ربما يميل إلى مذهب أفلاطون في كون النفوس موجودة قبل وجود الأبدان، إلا أن نقل المتأخرين ما قدمنا ذكره.
وخالفه أيضا في حدوث العالم: إن أفلاطون يحيل وجود حوادث لا أول لها، لأنك إذا قلت حادث، فقد أثبت سبق الأزلية لكل واحد، وما ثبت لكل واحد يجب أن يثبت للكل.
قال: وأن صورها لا بد وأن تكون حادثة، لكن الكلام في هيولاها وعنصرها. فأثبت عنصرا قبل وجودها، فظن بعض العقلاء أنه حكم عليه بالأزلية والقدم، وهو إذ أثبت واجب الوجود لذاته، وأطلق لفظ الإبداع على العنصر، فقد أخرجه عن الأزلية بذاته، بل يكون وجوده بوجود واجب الوجود كسائر المبادئ التي ليست زمانية، ولا وجودها ولا حدوثها حدوث زماني. فالبسائط حدوثها إبداعي غير زماني، والمركبات حدوثها بوسائط البسائط حدوث زماني.
وقال: إن العالم لا يفسد فسادا كليا. ويحكى عنه في سؤاله عن طيماوس:
ما الشيء الذي لا حدوث له؟ وما الشيء الحادث وليس بباق؟ وما الشيء الموجود بالفعل وهو أبدأ بحال واحدة؟ وإنما يعنى بالأول: وجود الباري تعالى. وبالثاني: وجود الكائنات الفاسدات التي لا تثبت على حالة واحدة. وبالثالث: وجود المبادئ والبسائط التي لا تتغير.
ومن أسئلته: ما الشيء الكائن ولا وجود له؟ وما الشيء الموجود ولا كون له؟.
وإنما يعنى بالأول الحركة المكانية والزمان، لأنه لم يؤهله لاسم الوجود، ويعنى بالثاني الجواهر العقلية التي هي فوق الزمان والحركة والطبيعة وحق لها اسم الوجود، إذ لها السرمد والبقاء والدهر.
ويحكى عنه أنه قال: إن الأسطقسات لم تزل تتحرك حركة مشوهة مضطربة غير ذات نظم، وإن الباري تعالى نظمها ورتبها فكان هذا العالم. وربما عبرة عن الأسطقسات بالأجزاء اللطيفة، وقيل إنه عنى بها الهيولى الأزلية العارية عن الصور حتى اتصلت الصور والأشكال بها فترتبت وانتظمت.
ورأيت في "راموز" له أنه قال: إن النفوس كانت في عالم الذكر مغتبطة مبتهجة بعالمها وما فيه من الروح والبهجة والسرور، فأهبطت إلى هذا العالم حتى تدرك الجزئيات، وتستفيد ما ليس لها بذاتها بواسطة القوى الحسية، فسقطت رياشها قبل الهبوط، فهبطت حتى يستوي ريشها وتطير إلى عالمها بأجنحة مستفادة من هذا العالم.
وحكى أرسطوطاليس عنه أنه أثبت المبادئ خمسة أجناس: الجوهر، والاتفاق، والاختلاف، والحركة، والسكون. ثم فسر كلامه فقال أما الجوهر، فنعني به الوجود.
وأما الاتفاق، فلأن الأشياء متفقة بأنها من الله تعالى، وأما الاختلاف، فلأنها مختلفة في صورها، وأما الحركة، فلأن لكل شيء من الأشياء فعلا خاصا.
وذلك نوع من الحركة، لا حركة النقلة، وإذا تحرك نحو الفعل، وفعل، فله سكون بعد ذلك لا محالة. قال: وأثبت البخت أيضا مبدا سادسا وهو نطق عقلي وناموس لطبيعة الكل، وقال جرجيس: إنه قوة روحانية مدبرة للكل، وبعض الناس يسميه جدا، وزعم الرواقيون أنه نظام لعلل الأشياء وللأشياء المعلولة.
وزعم بعضهم أن علل الأشياء ثلاثة المشتري، والطبيعة، والبخت.
وقال أفلاطون: إن في العالم طبيعة عامة تجمع الكل، وفي كل واحد من المركبات طبيعة خاصة، وحد الطبيعة بأنها مبدأ الحركة والسكون في الأشياء، أي مبدأ التغير، وهي قوة سارية في الموجودات كلها تكون السكنات والحركات بها، فطبيعة الكل محركة للكل. والمحرك الأول يجب أن يكون ساكنا، وإلا تسلسل القول فيه إلى ما لا نهاية له.
حكي أرسطو طاليس في مقالة الألف الكبرى من كتاب "ما بعد الطبيعة" أن أفلاطون كان يختلف في حداثته إلى أقراطيلوس، فكتب عنه ما روى عن هرقليطس: أن جميع الأشياء المحسوسة فاسدة، وأن العلم لا يحيط بها. ثم اختلف بعده إلى سقراط, وكان مذهبه طلب الحدود دون النظر في طبائع المحسوسات وغيرها، فظن أفلاطون أن نظر سقراط في غير الأشياء المحسوسة، لأن الحدود ليست للمحسوسات، لأنها إنما تقع على أشياء دائمة كلية، أعني: الأجناس. والأنواع. فعند ذلك سمى أفلاطون الأشياء الكلية صورا، لأنها واحدة، ورأى أن المحسوسات لا تكون إلا بمشاركة الصور. إذن كانت الصور رسوما ومثالات لها. متقدمة عليها. وإنما وضع سقراط الحدود مطلقا، لا باعتبار المحسوس وغير المحسوس. وأفلاطون ظن أنه وضعها لغير المحسوسات، فأثبتها مثلا عامة.
وقال أفلاطون في كتاب "النواميس": إن الأشياء التي لا ينبغي للإنسان أن يجهلها، منها: أن له صانعا، وأن صانعه يعلم أفعاله. وذكر أن الله تعالى إنما يعرف بالسلب، أي لا شبيه له ولا مثال. أنه أبدع العالم من لا نظام إلى نظام، وأن كل مركب فهو إلى الانحلال، وأنه لن يسبق العالم زمان، ولم يبدع عن شيء.
اختلاف الأوائل في الإبداع والمبدع والإرادة:
ثم إن الأوائل اختلفوا في الإبداع والمبدع: هل هما عبارتان عن معبر واحد؟ أم للإبداع نسبة إلى المبدع ونسبة إلى المبدع؟ وكذلك في الإرادة إنها المراد، أم المريد؟ على حسب اختلاف متكلمي الإسلام في الخلق، والمخلوق، والإرادة إنها خلق، أم مخلوقة، أم صفة في الخالق؟
قال انكساغورس بمذهب فلوطرخيس: إن الإرادة ليست هي غير المراد، ولا غير المريد، وكذلك الفعل، لأنهما لا صورة لهما ذاتية، وإنما يقومان بغيرهما. فالإرادة مرة تكون مستبطنة في المريد، ومرة ظاهرة في المراد، وكذلك الفعل.
وأما أفلاطون وأرسطوطاليس فلا يقبلان هذا القول، وقالا: إن صورة الإرادة وصورة الفعل قائمتان، وهما أبسط من صورة المراد، كالقاطع للشيء هو المؤثر، وأثره في الشيء، والمقطوع هو المؤثر فيه القابل للأثر.
فالأثر ليس هو المؤثر فيه، وإلا انعكس حتى يكون المؤثر هو الأثر، والمؤثر فيه هو الأثر، وهو محال، فصورة المبدع فاعلة، وصورة المبدع مفعولة، وصورة الإبداع متوسطة بين الفاعل والمفعول.
فللفعل صورة، وأثر، فصورته من جهة المبدع. وأثره من جهة المبدع. والصورة من جهة المبدع في حق الباري تعالى ليست زائدة على ذاته حتى يقال صورة إرادة، وصورة باري مفترقتان، بل هي حقيقة واحدة.
وأما برمنيدس الأصغر، فإنه أجاز قولهم في الإرادة، ولم يجزه في الفعل، وقال: إن الإرادة تكون بلا توسط من الباري تعالى فأجائز ما وصفوه. وأما الفعل فيكون بتوسط منه، وليس ما هو بلا توسط كالذي يكون بتوسط، بل الفعل قط لن يتحقق إلا بتوسط الإرادة، ولا ينعكس.
وأما الأولون مثل تاليس وأبندقليس، فقد قالوا: الإرادة من جهة المبدع هي المبدع، ومن جهة المبدع هي المبدع. وفسروا هذا بأن الإرادة من جهة الصورة هي المبدع، ومن جهة الأثر هي المبدع. ولا يجوز أن يقال إنها من جهة الصورة هي المبدع، لأن صورة الإرادة عند المبدع قبل أن يبدع، فغير جائز أن تكون ذات صورة الشيء الفاعل هي المفعول، بل من جهة أثر ذات الصورة هي المفعول. ومذهب أفلاطون وأرسطوطاليس هذا بعينه. وفي الفصل انغلاق.















مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید