المنشورات

حكم الإسكندر الرومي:

وهو ذو القرنين الملك، وليس هو المذكور في القرآن، بل هو ابن فيلبوس الملك. وكان مولده في السنة الثالثة عشرة من ملك دارا الأكبر. سلمه أبوه إلى أرسطوطاليس الحكيم المقيم بمدينة إينياس، فأقام عنده خمس سنين يتعلم منه الحكمة والأدب حتى بلغ أحسن المبالغ، ونال من الفلسفة ما لم ينله سائر تلاميذه، فاسترده والده حين استشعر من نفسه علة خاف منها، فلما وصل إليه جدد العهد له، وأقبل عليه، واستولت عليه العلة، فتوفي منها، واستقل الإسكندر بأعباء الملك.
فمن حكمه: أنه سأله معلمه وهو في المكتب: إن أفضي إليك هذا الأمر يوما ما فأين تضعني؟ قال بحيث تضعك طاعتك في ذلك الوقت.
وقيل له: إنك تعظم مؤدبك أكثر تعظيمك والدك! قال: لأن أبي كان سبب حياتي الفانية، ومؤدبي هو سبب حياتي الباقية، وفي رواية: لأن أبي كان سبب حياتي، ومؤدبي سبب تجويد حياتي، وفي رواية: لأن أبي كان سبب كوني ومؤدبي كان سبب نطقي.
وقال أبو زكريا الصيمري: لو قيل لي هذا لقلت: لأن أبي كان قضى وطرا بالطبيعة التي اختلفت بالكون والفساد، ومؤدبي أفادني العقل الذي به انطلقت إلى ما ليس فيه كون ولا فساد.
وجلس الإسكندر يوما فلم يسأله أحد حاجة، فقال لأصحابه: والله ما أعد هذا اليوم من أيام عمري في ملكي. قيل: ولم أيها الملك؟ قال: لأن الملك لا يوجد التلذذ به إلا بالجود على السائل، وإغاثة الملهوف، ومكافأة المحسن، وإلا بإنالة الراغب، وإسعاف الطالب.
وكتب إليه أرسطوطاليس في كلام طويل: اجمع في سياستك بين بدار1 لا حدة فيه، وريث لا غفلة معه، وامزج كل شكل بشكله حتى يزداد قوة وعزة عن ضده حتى يتميز لك بصورته، وصن وعدك عن الخلف، فإنه شين، وشب وعيدك بالعفو، فإنه زين، وكن عبدا للحق، فإن عبد الحق حر، وليكن وكدك2 الإحسان إلى جميع الخلق، ومن الإحسان وضع الإساءة في موضعها. وأظهر لأهلك أنك منهم، ولأصحابك أنك بهم، ولرعيتك أنك لهم.
وتشاور الحكماء في أن يسجدوا له إجلالا وتعظيما، فقال: لا سجود لغير بارئ الكل، بل يحق له السجود على من كساه بهجة الفضائل.
وأغلظ له رجل من أهل أثينية فقام إليه بعض قواده ليقابله بالواجب، فقال له الإسكندر: دعه لا تنحط إلى دناءته، ولكن ارفعه إلى شرفك.
وقال الإسكندر: من كنت تحب الحياة لأجله، فلا تستعظم الموت بسببه.
وقيل له: إن "روشنك" امرأتك بنت دارا الملك، وهي من أجمل النساء، فلو قربتها إلى نفسك! قال: أكره أن يقال: غلب الإسكندر دارا وغلبت روشنك الإسكندر.
وقال: من الواجب على أهل الحكمة أن يسرعوا إلى قبول اعتذار المذنبين، وأن يبطئوا عن العقوبة.
وقال: سلطان العقل على باطن العاقل, أشد تحكما من سلطان السيف على ظاهر الأحمق.
وقال: ليس الموت بألم للنفس، بل للجسد.
وقال: الذي يريد أن ينظر إلى أفعال الله عز وجل مجردة، فليعف عن الشهوات.
وقال: إن نظم جميع ما في الأرض شبيهة بالنظم السماوية، لأنها أمثال له بحق.
وقال: العقل لا يألم في طلب معرفة الأشياء، بل الجسد يألم ويسأم.
وقال: النظر في المرآة يرى رسم الوجه، وفي أقاويل الحكماء يرى رسم النفس.
ووجدت في عضده صحيفة فيها: قلة الاسترسال إلى الدنيا أسلم، والاتكال على القدر أروح، وعند حسن الظن تقر العين، ولا ينفع مما هو واقع التوقي.
وقال بعضهم عنه: إنه أخذ يوما تفاحة فقال: ما ألطف قبول هذه الهيولى الشخصية لصورتها، وانفعالها لما تؤثر الطبيعة فيها من الأوضاع الروحانية: من تركيب بسيط، وبسط مركب، حسب تمثيل النفس لها. كل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل. ولو قيل: وألطف منها قبول هذه النفس الإنسانية لصورتها العقلية، وانفعالها لما تؤثر النفس الكلية فيها من العلوم الروحانية: من تركيب بسيط، وبسط مركب حسب تمثيل العقل لها، وكل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل, وإله الكل.
وسأله أطوسايس الكلبي أن يعطيه ثلاث حبال. فقال الإسكندر: ليست هذه عطية ملك، فقال الكلبي: أعطني مائة رطل من الذهب، فقال: ولا هذه مسألة كلبي.
وقال بعضهم: كنا عند شبر المنجم إذا وصل إلينا الإسكندر الملك، فأقامنا في جوف الليل، وأدخلنا بستانا له، ليرينا النجوم، فجعل شبر يشير إليها بيده ويسير حتى سقط في بئر، فقال: من تعاطى علم ما فوقه، بلى بجهل ما تحته.
وقال: السعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه، لأنا إذا عرفناه أطلنا يومه وأطرنا نومه.
وقال: استقلل كثير ما تعطى، واستكثر قليل ما تأخذ، فإن قرة عين الكريم فيما يعطي، ومسرة اللئيم فيما يأخذ. ولا تجعل الشحيح أمينا، ولا الكذاب صفيا, فإنه لا عفة مع شح، ولا أمانة مع كذب.
وقال: الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، وإجالة الرأي بتحصين الأسرار.
ولما توفي الإسكندر برومية المدائن وضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية، وكان قد عاش اثنتين وثلاثين سنة، وملك اثنتي عشرة سنة وندب جماعة من الحكماء لندبته.
فقال بليموس: هذا يوم عظيم العبرة أقبل من شره ما كان مدبرا، وأدبر من خيره ما كان مقبلا. فمن كان باكيا على من زال ملكه، فليبكه.
وقال ميلاطوس: خرجنا إلى الدنيا جاهلين، وأقمنا فيها غافلين، وفارقناها كارهين.
وقال زينون الأصغر: يا عظيم الشأن! ما كنت إلا ظل سحاب اضمحل لما أظل، فما تحس لملكك أثرا، ولا نعرف له خيرا.
وقال أفلاطون الثاني: أيها الساعي المغتصب, جمعت ما خذلك، وتوليت ما تولى عنك، فلزمتك أوزاره، وعاد على غيرك مهنئوه وثماره.
وقال فوطس: ألا تتعجبون ممن لم يعظنا اختيارا، حتى وعظنا بنفسه اضطرارا.
وقال مسطورس: قد كنا الأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على القول، واليوم نقدر على القول، فهل نقدر على الاستماع؟
وقال ثاون: انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى، وإلى ظل الغمام كيف انجلى؟
وقال سوس: كم قد أمات هذا الشخص لئلا يموت فمات، فكيف لم يدفع عن نفسه بالموت؟
وقال حكيم: طوى الأرض العريضة فلم يقنع حتى طوى منها في ذراعين.
وقال آخر: ما سافر الإسكندر سفرا بلا أعوان، ولا آلة ولا عدة غير سفره هذا.
وقال آخر: ما أرغبنا فيما فارقت، وأغفلنا عما عاينت.
وقال آخر: لم يؤدبنا بكلامه كما أدبنا بسكوته.
وقال آخر: من يرى هذا الشخص فليتق، وليعلم أن الديون هكذا قضاؤها.
وقال آخر: قد كان بالأمس طلعته علينا حياة، واليوم النظر إليه سقيم.
وقال آخر: قد كان يسأل عما قبله، ولا يسال عما بعده.
وقال آخر: من شدة حرصه على الارتفاع انحط كله.
وقال آخر: الآن تضطرب الأقاليم، لأن مسكنها قد سكن.
وقال آخر: الآن وقت الانصراف، لأن الأشخاص يتوجهون من دار إلى دار، والله تعالى يبقى ولا يفنى.














مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید