المنشورات

حكم ديوجانس الكلبي:

وكان حكيما فاضلا متقشفا، لا يقتني شيئا، ولا يأوي إلى منزل، وكأنه من قدرية الفلاسفة لما يوجد في مدارج كلامه من الميل إلى القدر. قال: ليس الله تعالى علة الشرور، بل الله تعالى علة الخيرات والفضائل والجود والعقل. جعلها بين خلقه، فمن كسبها وتمسك بها نالها، لأنه لا يدرك الخيرات إلا بها.
وسأله الإسكندر يوما فقال: بأي شيء يكتسب الثواب؟ قال: بأفعال الخيرات، وإنك لتقدر أيها الملك أن تكتسب في يوم واحد ما لا تقدر الرعية أن تكسبه في دهرها.
وسأله عصبة من أهل الجهل: ما غذاؤك؟ قال: ما عفتم1، يعني الحكمة.
قالوا: فما عفت؟ قال: ما استطبتم، يعني: الجهل. قالوا: كم عبد لك؟
قال: أربابكم، يعني الغضب، والشهوة، والأخلاق الرديئة الناشئة منهما.
وقالوا له يوما: ما أقبح صورتك! قال: لم أملك الخلقة الذميمة فألام عليها.
ولا ملكتم الخلقة الحسنة فتحمدوا عليها، وأما ما صار في ملكي وأتى عليه تدبيري فقد استكملت تزيينه وتحسينه بغاية الطوق1 وقاصية الجهد. واستكملتم شين ما في ملككم.
قالوا: فما الذي في الملك من التزيين والتهجين؟ قال: أما التزيين فعمارة الذهن بالحكمة. وجلاء العقل بالأدب، وقمع الشهوة بالعفاف، وردع الغضب بالحلم، وقطع الحرص بالقنوع، وإماتة الحسد بالزهد، وتذليل المرح بالسكون، ورياضة النفس حتى تصير مطية قد ارتاضت فتصرفت حيث صرفها فارسها في طلب العليات، وهجر الدنيات. ومن التهجين: تعطيل الذهن من الحكمة، وتوسيخ العقل بضياع الأدب، وإثارة الشهوة بأتباع الهوى، وإضرام الغضب بالانتقام، وإمداد الحرص بالطلب.
وقدم إليه رجل طعاما وقال له: استكثر منه، فقال: عليك بتقديم الأكل، وعلينا باستعمال العدل.
وقال: زمام العافية بيد البلاء، ورأس السلامة تحت جناح العطب، وباب الأمن مستور بالخوف، فلا تكونن في حال من هذه الثلاث غير متوقع لضدها.
وقيل له: مالك لا تغضب؟ قال: أما غضب الإنسانية فقد أغضبه، وأما غضب البهيمة فقد تركته، لترك الشهوة البهيمة.
واستدعاه الملك الإسكندر يوما إلى مجلسه، فقال للرسول: قل له إن الذي منعك من المصير إلينا هو الذي منعنا من المصير إليك، منعك استغناؤك عني بسلطانك، ومنعني استغنائي عنك بقناعتي.
وعابته امرأة يونانية بقبح الوجه ودمامة الصورة، فقال: منظر الرجال بعد المخبر، ومخبر النساء بعد المنظر، فخجلت، وتابت.
ووقف عليها الإسكندر يوما فقال له: ما تخافني؟ قال: أنت خير أم شرير؟ قال: بل خير، قال: فما لخوفي من الخير معنى، بل يجب علي رجاؤه.
وكان لأهل مدينة من بلاد يونان صاحب جيش جبان، وطبيب لم يعالج أحدا إلا قتله، فظهر عليهم عدو، ففزعوا إليه، فقال: اجعلوا طبيبكم صاحب لقاء العدو، واجعلوا صاحب جيشكم طبيبكم.
وقال: اعلم أنك ميت لا محالة، فاجتهد أن تكون حيا بعد موتك، لئلا تكون لميتتك ميتة ثانية.
وقال: كما أن الأجسام تعظم في العين في اليوم الضباب، كذلك تعظم الذنوب عند الإنسان في حال الغضب.
وسئل عن العشق، فقال: هو اختيار صادف نفسا فارغة.
ورأى غلاما معه سراج فقال له: تعلم من أين تجيء هذه النار؟ فقال له الغلام: إن أخبرتني إلى أين تذهب، أخبرتك من أين تجيء، فأعياه وأفحمه، بعد أن لم يكن يقوى عليه أحد.
ورأى امرأة قد حملها الماء، فقال: على هذا المعنى جرى المثل, دع الشر يغسله الشر.
ورأى امرأة تحمل نارا، فقال: نار على نار، وحامل شر من محمول.
ورأى امرأة متزينة في ملعب، فقال: لم تخرج لترى، ولكن لتري.
ورأى نساءً يتشاورن، فقال: على هذا جرى المثل؛ هو ذا الثعبان يستقرض من الأفاعي سما.
ورأى جارية تتعلم الكتابة، فقال: يسقى هذا السهم سما، ليرمى به يوما ما.
ورأى امرأة ضاحكة، فقال: لو كنت تدركين الموت لما كنت ضاحكة أبدا.
وقال للإسكندر يوما وكان يقربه ويدنيه ويأنس بكلامه: أيها الملك قد آمنت بالفقر، فليكن غناك اقتناء الحمد، وابتغاء المجد.










مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید