المنشورات

ابن سينا: كلامه في المنطق

الفصل الرابع: المتأخرون من فلاسفة الإسلام
مثل يعقوب بن إسحاق الكندي، وحنين بن أسحاق، ويحيى النحوي، وأبي الفرج المفسر، وأبي سليمان السجزي، وأبي سليمان محمد بن معشر المقدسي، وأبي بكر ثابت بن قرة الحراني، وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري، وأبي زيد أحمد بن سهل البلخي، وأبي محارب الحسن بن سهل بن محارب القمي، وأحمد بن الطيب السرخسي، وطلحة بن محمد النسفي، وأبي حامد أحمد بن محمد الإسفزاري، وعيسى بن علي بن عيسى الوزير، وأبي علي أحمد بن محمد بن مسكويه، وأبي زكريا يحيى بن عدي الصيمري، وأبي الحسن محمد بن يوسف العامري، وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي، وغيرهم.
وإنما علامة القوم: أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا. قد سلكوا كلهم طريقة أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به، سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين. ولما كانت طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة، ونظره في الحقائق أغوص؛ اخترت نقل طريقته من كتبه على إيجاز واختصار، كأنها عيون كلامه، ومتون مرامه. وأعرضت عن نقل طرق الباقين، و"كل الصيد في جوف الفرا".
1- ابن سينا: كلامه في المنطق
قال أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا: العلم إما تصور، وإما تصديق. أما التصور فهو العلم الأول، وهو أن تدرك أمرا ساذجا من غير أن تحكم عليه بنفي أو إثبات، مثل تصورنا ماهية الإنسان. وأما التصديق فهو أن تدرك أمرا وأمكنك أن تحكم عليه بنفي أو إثبات، مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ. وكل واحد من القسمين منه ما هو أولى. ومنه ما هو مكتسب. فالتصور المكتسب إنما يستحصل بالحد وما يجري مجراه، والتصديق المكتسب إنما يستحصل بالقياس وما يجري مجراه، فالحد والقياس آلتان بهما تحصل المعلومات التي لم تكن حاصلة فتصير معلومة بالروية. وكل واحد منهما منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو دون الحقيقي, ولكنه نافع منفعة بحسبه، ومنه ما هو باطل مشتبه بالحقيقي. والفطرة الإنسانية غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف إلا أن تكون مؤيدة من عند الله عز وجل، فلا بد إذن للناظر من آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يضل في فكره، وذلك هو الغرض من المنطق.
ثم إن كل واحد من الحد والقياس فمؤلف من معان معقولة بتأليف محدود. فيكون لها مادة منها ألفت وصورة بها التأليف، والفساد قد يعرض من إحدى الجهتين وقد يعرض من جهتيهما معا. فالمنطق هو الذي نعرف به: من أي المواد والصور يكون الحد الصحيح والقياس السديد الذي يوقع يقينا، ومن أيها ما يوقع عقدا شبيها باليقين، ومن أيها ما يوقع ظنا غالبا، ومن أيها ما يوقع مغالطة وجهلا، وهذه فائدة المنطق. ثم لما كانت المخاطبات النظرية بألفاظ مسموعة، والأفكار العقلية بأقوال عقلية، فتلك المعاني التي في الذهن من حيث يتأدى بها إلى غيرها كانت موضوعات المنطق. ومعرفة أحوال تلك المعاني مسائل علم المنطق. وكان المنطق بالنسبة إلى المعقولات على مثال النحو بالنسبة إلى الكلام، والعروض إلى الشعر، فوجب على المنطقي أن يتكلم في الألفاظ أيضا من حيث تدل على المعاني.
واللفظ يدل على المعنى من ثلاثة أوجه، أحدها: بالمطابقة. والثاني: بالتضمن، والثالث بالالتزام. وهو ينقسم إلى: مفرد، ومركب، فالمفرد ما يدل على معنى وجزء من أجزائه لا يدل على جزء من أجزاء ذلك المعنى بالذات أي حين هو جزء له، والمركب هو الذي يدل على معنى وله أجزاء منها يلتئم مسموعه، ومن معانيها يلتئم معنى الجملة.
والمفرد ينقسم إلى كلي وجزئي. والكلي هو الذي يدل على كثيرون بمعنى واحد متفق، ولا يمنع نفس مفهومه عن الشركة فيه، والجزئي هو ما يمنع نفس مفهومه ذلك. ثم الكلي ينقسم إلى ذاتي، وعرضي. والذاتي هو الذي يقوم ماهية ما يقال عليه. والعرضى، هو الذي لا يقوم ماهية، سواء كان غير مفارق في الوجود والوهم، أو مفارقا بين الوجود، أو غير بين الوجود له. ثم الذاتي ينقسم إلى ما هو مقول في جواب: ما هو؟ وهو اللفظ المفرد الذي يتضمن جميع المعاني الذاتية التي يقوم الشيء بها، وفرق بين المقول في جواب ما هو وبين الداخل في جواب ما هو. وإلى ما هو مقول في جواب أي شئ هو؟ وهو الذي يدل على معنى تتميز به أشياء مشتركة في معنى واحد تميزا ذاتيا. وأما العرضى فقد يكون ملازما في الوجود والوهم, وبه يقع تمييز أيضا لا ذاتيا، وقد يكون مفارقا. وفرق بين العرضى والعرض الذي هو قسيم الجوهر.
وأما رسوم الألفاظ الخمسة التي هي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام: فالجنس يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق الذاتية في جواب ما هو؟ والنوع يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو؟ إذا كان نوع الأنواع، وإذا كان نوعا متوسطا فهو المقول على كثيرين مختلفين في جواب: ما هو؟ ويقال عليه قول آخر في جواب ما هو بالشركة؟ وينتهى الإرتقاء إلى جنس لا جنس فوقه، وإن قدر فوق الجنس أمر أعم منه فيكون العموم بالتشكيك، والنزول إلى نوع لا نوع تحته، وإن قدر دون النوع صنف أخص فيكون الخصوص بالعوارض. ويرسم الفصل بأنه الكلي الذاتي الذي يقال به على نوع تحت جنسه بأنه أي شيء هو؟ وترسم الخاصة بأنها هي الكلي الدال على نوع واحد في جواب أي شيء هو، لا بالذات. ويرسم العرض العام بأنه الكلي المفرد الغير الذاتي، ويشترك في معناه كثيرون، ووقوع العرض على هذا وعلى الذي هو قسيم الجوهر وقوع بمعنيين مختلفين. 
في المركبات: الشيء إما عين موجودة، وإما صورة مأخوذة عنه في الذهن، ولا يختلفان في النواحي والأمم. وإما لفظة تدل على الصورة التي في الذهن، وأما كتابة دالة على اللفظ، ويختلفان في الأمم. فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على الصورة في الذهن، وتلك الصورة دالة على الأعيان الموجودة. ومبادئ القول: إما اسم، وإما كلمة، وإما أداة. فالاسم لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى، والكلمة لفظ مفرد يدل على معنى وعلى الزمان الذي فيه ذلك المعنى لموضوع ما غير معين، والأداة لفظ مفرد إنما يدل على معنى يصح أن يوضع أو يحمل بعد أن يقترن باسم أو كلمة، وإذا ركبت اللفظ تركيبا يؤدي إلى معنى فحينئذ يسمى قولا. ووجوه التركيبات مختلفة، وإنما يحتاج المنطقي إلى تركيب خاص، وهو أن يكون بحيث يتطرق إليه التصديق والتكذيب. فالقضية هي: كل قول فيه نسبة بين شيئين بحيث يتبعه حكم صدق أو كذب، والحملية منها: كل قضية فيها النسبة المذكورة بين شيئين ليس في كل منهما هذه النسبة إلا بحيث يمكن أن يدل على كل واحد منها بلفظ مفرد. والشرطية منها: كل فضية فيها هذه النسبة بين شيئين فيهما هذه النسبة من حيث هي مفصلة، والمتصلة من الشرطية: هي التي توجب أو تسلب لزوم قضية لأخرى من القضايا الشرطية، والمنفصلة منها: ما توجب أو تسلب عناد قضية لأخرى من القضايا الشرطية. والإيجاب هو إيقاع هذه النسبة وإيجادها، وفي الحملية هو الحكم بوجود محمول لموضوع، والسلب هو رفع هذه النسبة الوجودية، وفي الحملية هو الحكم بلا وجود محمول لموضوع. والمحمول هو المحكوم به، والموضوع هو المحكوم عليه. والمخصوصة قضية حملية موضوعها شيء جزئي، والمهملة قضية حملية موضوعها كلي ولكن لم يبين أن الحكم في كله أو في بعضه، ولا بد أنه في البعض وشك في أنه في الكل فحكمه حكم الجزئي، والمحصورة هي التي موضوعها كلي, والحكم عليه مبين أنه في كله أو بعضه، وقد تكون موجبة وسالبة. والسور هو اللفظ الذي يدل على مقدار الحصر، ككل، ولا واحد، وبعض، ولا كل. والقضيتان المتقابلتان هما اللتان تختلفان بالسلب والإيجاب، وموضوعهما ومحمولهما واحد في المعنى، والإضافة، والقوة والفعل، والجزء، والكل، والمكان، والزمان، والشرط. والتناقض هو التقابل بين قضيتين في الإيجاب والسلب تقابلا يجب عنه لذاته أن يقتسما الصدق والكذب، ويجب أن يراعى فيه الشرائط المذكورة. والقضية البسيطة هي التي موضوعها ومحمولها اسم محصل، والمعدولة هي التي موضوعها أو محمولها غير محصل، كقولنا زيد هو غير بصير، والعدمية هي التي محمولها أخس المتقابلين، أي دل على عدم شيء من شأنه أن يكون للشيء، أو لنوعه، أو لجنسه، مثل قولنا زيد جائر.
ومادة القضايا هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع يجب بها لا محالة أن يكون له دائما في كل وقت في إيجاب أو سلب، أو غير دائم له في إيجاب ولا سلب. وجهات القضايا ثلاث: واجب ويدل على دوام الوجود، وممتنع ويدل على دوام العدم، وممكن ويدل على لا دوام وجود ولا عدم.
والفرق بين الجهة والمادة: أن الجهة لفظ مصرح بها تدل على أحد هذه المعاني، والمادة حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها، وربما تخالفا، كقولك زيد يمكن أن يكون حيوانا، فالمادة واجبة والجهة ممكنة.
والممكن يطلق على معنيين. أحدهما: ما ليس بممتنع، وعلى هذا الشيء إما ممكن وإما ممتنع وهو الممكن العامي. والثاني ما ليس بضروري في الحالتين أعني الوجود والعدم. وعلى هذا الشيء إما واجب, وإما ممتنع, وإما ممكن، وهو الممكن الخاصي.
ثم إن الواجب والممتنع بينهما غاية الخلاف، مع إتفاقهما في معنى الضرورة، فإن الواجب هو ضروري الوجود بحيث لو قدر عدمه لزم منه محال، والممتنع ضروري العدم بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال، والممكن الخاصي هو ما ليس بضروري الوجود والعدم. والحمل الضروري على أوجه ستة تشترك كلها في الدوام. 
الأول: أن يكون الحمل دائما لم يزل ولا يزال.
والثاني: أن يكون الحمل دائما ما دامت ذات الموضوع موجودة لم تفسد، وهذان هما المستعملان والمرادان إذا قيل إيجاب أو سلب ضروري.
والثالث: أن يكون الحمل دائما ما دامت ذات الموضوع موصوفة بالصفة التي جعلت موضوعة معها.
والرابع: أن يكون الحمل موجودا, وليس له ضرورة بلا هذا الشرط.
والخامس: أن تكون الضرورة وقتا ما معينا لا بد منه.
والسادس: أن تكون الضرورة وقتا ما غير معين.
ثم إن ذوات الجهة قد تتلازم طردا وعكسا, وقد لا تتلازم، فواجب أن يوجد يلزمه, ممتنع أن لا يوجد، وليس يمكن بالمعنى العامي أن لا يوجد، ونقائض هذه متعاكسة وقس عليه سائر الطبقات. وكل قضية فإما ضرورية، وإما ممكنة، وإما مطلقة.
فالضرورية مثل قولنا: كل ب ابالضرورة؛ أي كل واحد مما يوصف بأنه ب، دائما، أو غير دائم، فذلك الشيء دائما ما دامت عين ذاته موجودة يوصف بأنه أ.
والممكنة: هي التي حكمها من إيجاب أو سلب غير ضروري.
والمطلقة فيها رأيان، أحدهما: أنها التي لم يذكر فيها جهة ضرورة للحكم أو إمكان للحكم بل أطلق إطلاقا. والثاني: ما يكون الحكم فيها موجودا لا دائما بل وقتا ما، وذلك الوقت إما ما دام الموضوع موصوفا بما وصف به، أو ما دام المحمول محكموما به، أو في وقت معين ضروري، أو في وقت ضروري غير معين. وأما العكس فهو تصيير الموضوع محمولا, والمحمول موضوعا مع بقاء السلب والإيجاب بحاله, والصدق والكذب بحاله. 
والسالبة الكلية تنعكس مثل نفسها، وأما السالبة الجزئية فلا تنعكس.
والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية، والموجبة الجزئية تنعكس مثل نفسها.
في القياس ومبادئه وأشكاله ونتائجه:
المقدمة قول يوجب شيئا لشيء، أو يسلب شيئا عن شيء: جعلت جزء قياس. والحد ما تنحل إليه المقدمة من جهة ما هي مقدمة. والقياس: هو قول مؤلف من أقوال إذا وضعت لزم عنها بذاتها قول آخر غيرها اضطرارا. وإذا كان بينا لزومه يسمى قياسا كاملا، وإذا احتاج إلى بيان فهو غير كامل. والقياس ينقسم إلى اقتراني, واستثنائي، والاقتراني أن يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولا فيه بالفعل بوجه ما، والاستثنائي أن يكون ما يلزمه هو أو نقيضه مقولا فيه بالفعل. والاقتراني إنما يكون عن مقدمتين يشتركان في حد ويفترقان في حدين، فتكون الحدود ثلاثة، ومن شأن المشترك فيه أن يزول عن الوسط ويربط ما بين الحدين الآخرين، فيكون ذلك هو اللازم ويسمى نتيجة، فالمكرر يسمي حدا أوسط، والباقيان طرفين، والذي يريد أن يصير محمول اللازم يسمى الطرف الأكبر، والذي يريد أن يكون موضوع اللازم يسمى الطرف الأصغر، والمقدمة التي فيها الطرف الأكبر تسمى الكبرى، والتي فيها الطرف الأصغر تسمى الصغرى، وتأليف الصغرى والكبرى يسمى قرينة، وهيئة الاقتران تسمى شكلا، والقرينة التي يلزم عنها لذاتها قول آخر تسمى قياسا، واللازم ما دام لم يلزم بعد بل يساق إليه القياس يسمى مطلوبا، وإذا لزم يسمى نتيجة. والحد الأوسط إن كان محمولا في مقدمة وموضوعا في الأخرى يسمى ذلك الاقتران شكلا أولا، وإن كان محمولا فيهما يسمى شكلا ثانيا، وإن كان موضوعا فيهما يسمى شكلا ثالثا. وتشترك الأشكال كلها في أنه لا قياس عن جزئيتين، وتشترك ما خلا الكائنة عن الممكنات في أنه لا قياس عن سالبتين، ولا عن صغرى سالبة كبراها جزئية. والنتيجة تتبع أخس المقدمتين في الكم والكيف.
وشريطة الشكل الأول أن تكون كبراه كلية، وصغراه موجبة. وشريطة الشكل الثاني أن تكون الكبرى فيه كلية, وإحدى المقدمتين مخالفة للأخرى في الكيف، ولا ينتج إذا كانت المقدمتان ممكنتين أو مطلقتين الإطلاق الذي لا ينعكس على نفسه كلتيهما، وشريطة الشكل الثالث أن تكون الصغرى موجبة، ثم لا بد من كلية في كل شكل. وليرجع في المختلطات إلى تصانيفه.
وأما القياسات الشرطية بقضاياها:
فاعلم أن الإيجاب والسلب ليس يختص بالحمليات، بل وفي الاتصال والانفصال، فإنه كما أن الدلالة على وجود الحمل إيجاب في الحمل، كذلك الدلالة على وجود الاتصال إيجاب في المتصل، والدلالة على وجود الانفصال في إيجاب في المنفصل، وكذلك السلب، وكل سلب فهو إبطال الإيجاب ورفعه. وكذلك يجري فيهما الحصر والإهمال. وقد تكون القضايا كثيرة والمقدمة واحدة. والاقتران من المتصلات أن يجعل مقدم أحدهما تالي الآخر، فيشتركان في التالي، أو يشتركان في المقدم، وذلك على قياس الأشكال الحملية، والشرائط فيها واحدة، والنتيجة شرطية تحصل من اجتماع المقدم والتالي اللذين هما كالطرفين. والاقترانيات من المنفصلات فلا تكون في جزء تام بل تكون في جزء غير تام، وهو جزء تال أو مقدم. والاستثنائية مؤلفة من مقدمتين إحداهما: شرطية، والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيها, ويجوز أن تكون حملية وشرطية، وتسمى المستثناة. والمستثناة من قياس فيه شرطية متصلة إن كان الاستثناء من المقدم فيجب أن يكون عين المقدم لينتج عين التالي، وإن كان من التالي فيجب أن يكون نقيضه لينتج نقيض المقدم، واستثناء نقيض المقدم وعين التالي لا ينتج شيئا. وأما إذا كانت الشرطية منفصلة, فإن كانت ذات جزأين فقط موجبتين فأيهما استثنيت عينه أنتج نقيض الباقي، وأيهما استثنيت نقيضه أنتج عين الباقي.
وأما القياسات المركبة:
فهي ما إذا حللت أفرادها كان ما ينتج كل واحد منها شيئا آخر، إلا أن نتائج بعضها مقدمات لبعض، وكل نتيجة فإنها تستتبع عكسها، وعكس نقيضها، وجزأها، وعكس جزئها، إن كان لها عكس، والمقدمات الصادقة تنتج نتيجة صادقة ولا ينعكس. فقد تنتج المقدمات الكاذبة نتيجة صادقة. والدور أن تأخذ النتيجة وعكس إحدى المقدمتين فتنتج المقدمة الثانية. وإنما يمكن إذا كانت الحدود في المقدمات متعاكسة متساوية. وعكس القياس هو أن تأخذ مقابل النتيجة بالضد أو النقيض وتضيفه إلى إحدى المقدمتين فينتج مقابل النتيجة الأخرى احتيالا في الجدل. وقياس الخلف هو الذي يبين فيه المطلوب من جهة تكذيب نقيضه، فيكون هو بالحقيقة مركبا من قياس اقتراني وقياس استثنائي. والمصادرة على المطلوب الأول هو أن يجعل المطلوب نفسه مقدمة في قياس يراد فيه إنتاجه، وربما تكون في قياس واحد، وربما تبين في قياسات، وحيثما كان أبعد كان من القبول أقرب. والاستقراء هو حكم على كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي، إما كلها وإما أكثرها. والتمثيل هو الحكم على شيء معين لوجود ذلك الحكم في شيء آخر معين أو أشياء، على أن ذلك الحكم كلي على المتشابه فيه، فيكون المحكوم عليه هو المطلوب، والمنقول منه الحكم هو المثال، والمعنى المتشابه فيه هو الجامع. وحكم الرأي مقدمة محمودة كلية في أن كذا كائن أو غير كائن وصواب أم خطأ. والدليل: قياس إضماري حده الأوسط شيء إذا وجد للأصغر تبعه وجود شيء آخر للأصغر دائما كيف كان ذلك التبع. والقياس الفراسي شبيه بالدليل من وجه, وبالتمثيل من وجه.
في مقدمات القياس من جهة ذواتها، وشرائط البرهان:
المحسوسات: هي أمور أوقع التصديق بها الحس، والمجربات: هي أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس، والمقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول، إما لأمر سماوي يختص به، أو لرأي وفكر قوي تميز به، والوهميات آراء أوجب اعتقادها قوة الوهم التابعة للحس، والذائعات: آراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها شهادة الكل، والمظنونات آراء يقع التصديق بها لا على الثبات, بل تخطر إمكان نقيضها بالبال، ولكن الذهن يكون إليها أميل، والمتخيلات هي مقدمات ليست تقال ليصدق بها، بل لتخيل شيئا على أنه شيء آخر على سبيل المحاكاة. والأوليات هي قضايا تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب أوجب التصديق بها. والبرهان: قياس مؤلف من يقينيات لإنتاج يقيني.
واليقينيات: إما أوليات وما جمع منها، وإما تجريبات، وإما محسوسات.
وبرهان اللم: هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة في الوجود والذهن جميعا. وبرهان الإن: هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق به. والمطالب أربعة: هل مطلقا، هو تعرف حال الشيء في الوجود أو العدم مطلقا، وهل مقيدا، وهو تعرف وجود الشيء على حال ما, أو ليس ما: يعرف التصور، وهو إما بحسب الاسم، أي ما المراد باسم كذا؟ وهذا يتقدم كل مطلب، وإما بحسب الذات، أي ما الشيء في وجوده؟ وهو يعرف حقيقة الذات، ويتقدمه "الهل المطلق" لم: يعرف العلة بجواب. هل: وهو إما علة التصديق فقط، وإما علة نفس الوجود. وإما أي, فهو بالقوة داخل في "الهل المقيد" وإنما يطلب التمييز إما بالصفات الذاتية، وإما بالخواص.
والأمور التي يلتئم منها أمر البراهين ثلاثة: موضوعات، ومسائل، ومقدمات. فالموضوعات يبرهن فيها، والمسائل يبرهن عليها، والمقدمات يبرهن بها، ويجب أن تكون صادقة يقينية ذاتية، وتنتهي إلى مقدمات أولية مقولة على الكل، كلية، وقد تكون ضرورية إلا على الأمور المتغيرة التي هي في الأكثر على حكم ما، فتكون أكثرية، وتكون عللا لوجود النتيجة، فتكون مناسبة.
الحمل الذاتي يقال على وجهين، أحدهما: أن يكون المحمول مأخوذا في حد الموضوع. والثاني: أن يكون الموضوع مأخوذا في حد المحمول.
المقدمة الأولية على وجهين، أحدهما: أن التصديق بها حاصل في أول العقل، والثاني: من جهة أن الإيجاب والسلب لا يقال على ما هو أعم من الموضوع قولا كليا. 
المناسب: هو أن لا تكون المقدمات فيه من علم غريب.
الموضوعات: هي التي توضع في العلوم فيبرهن على أعراضها الذاتية.
المسائل: هي القضايا الخاصة بعلم علم، المشكوك فيها, المطلوب برهانها. والبرهان يعطي حكم اليقين الدائم، وليس في شيء من الفاسدات عقد دائم، فلا برهان عليها، ولا برهان أيضا على الحد لأنه لا بد حينئذ من حد أوسط مساو للطرفين، لأن الحد والمحدود متساويان، وذلك الأوسط لا يخلو: إما أن يكون حدا آخر، أو يكون رسما، أو خاصة. فأما الحد الآخر فإن السؤال في اكتسابه ثابت، فإن اكتسب بحد ثالث فالأمر ذاهب إلى غير نهاية، وإن اكتسب بالحد الأول فذلك دور، وإن اكتسب بوجه آخر غير البرهان فلم لا يكتسب به هذا الحد؟ على أنه لا يجوز أن يكون لشيء واحد حدان تامان على ما سنوضح بعد، وإن كانت الواسطة غير حد فكيف صار ما ليس بحد أعرف وجودا للمحدود من الأمر الذاتي المقوم له وهو الحد؟ وأيضا فإن الحد لا يكتسب بالقسمة، فإن القسمة تضع أقساما، ولا تحمل من الأقسام شيئا بعينه إلا أن يوضع وضعا من غير أن يكون للقسمة فيه مدخل، وأما استثناء نقيض قسم ليبقى القسم الداخل في الحد، فهو إبانة الشيء بما هو مثله أو أخفى منه، فإنك إذا قلت: لكن ليس الإنسان غير ناطق، فهو إذا ناطق: لم تكن أخذت في الاستثناء شيئا أعرف من النتيجة، وأيضا فإن الحد لا يكتسب من حد الضد فليس لكل محدود ضد، ولا أيضا حد أحد الضدين أولى بذلك من حد الضد الآخر، والاستقراء لا يفيد علما كليا فكيف يفيد الحد؟ لكن الحد يقتنص بالتركيب، وذلك بأن تعمد إلى الأشخاص التي لا تنقسم، وتنظر من أي جنس هي من العشرة فتأخذ جميع المحولات المقومة لها التي في ذلك الجنس وتجمع العدة منها بعد أن تعرف أيها الأول، وأيها الثاني، فإذا جمعنا هذه المحمولات ووجدنا منها شيئا مساويا للمحدود من وجهين فهو الحد أحدهما: المساواة في الحمل، والثاني: المساواة في المعنى، وهو أن يكون دالا على كمال حقيقة ذاته لا يشذ منه شيء، فإن كثيرا ما يميز الذات يكون قد أخل ببعض الأجناس أو ببعض الفصول، فيكون مساويا في الحمل ولا يكون مساويا في المعنى، وبالعكس، ولا يلتفت في الحد إلى أن يكون وجيزا، بل ينبغي أن تضع الجنس القريب فيه باسمه أو بحده، ثم تأتي بجميع الفصول الذاتية، فإنك إذا تركت بعض الفصول فقد تركت بعض الذات.
والحد عنوان للذات وبيان لها، فيجب أن يقوم في النفس صورة معقولة مساوية للصورة الموجودة بتمامها، فحينئذ يعرض أن يتميز أيضا المحدود، ولا حد في الحقيقة لما لا وجود له, وإنما ذلك قول يشرح الاسم، فالحد إذن قول دال على الماهية، والقسمة معينة في الحد خصوصا إذا كانت بالذاتيات، ولا يجوز تعريف الشيء بما هو أخفى منه، ولا بما هو مثله في الجلاء والخفاء، ولا بما لا يعرف الشيء إلا به.
في الأجناس العشرة:
الجوهر: هو ما وجود ذاته ليس في موضوع أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه بالفعل لا بتقويمه.
الكم: هو الذي يقبل لذاته المساواة واللا مساواة والتجزؤ، وهو إما أن يكون متصلا إذ يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحد به, كالنقطة للخط، وإما أن يكون منفصلا لا يوجد لأجزائه ذلك لا بالقوة ولا بالفعل كالعدد. والمتصل قد يكون ذا وضع، وقد يكون عديم الوضع، وذو الوضع هو الذي يوجد لأجزائه اتصال وثبات وإمكان أن يشار إلى كل واحد منها: أنه أين هو من الآخر؟ فمن ذلك ما يقبل القسمة في جهة واحدة وهو الخط. ومنه ما يقبل في جهتين متقاطعتين على قوائم وهو الشطح، ومنه ما يقبل في ثلاث جهات قائم بعضها على بعض وهو الجسم. والمكان أيضا ذو وضع، لأنه الشطح الباطن من الحاوي، وأما الزمان فهو مقدار للحركة إلا أنه ليس من وضع، إذ لا توجد أجزاؤه معا وإن كان له اتصال، إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف الآن، وأما العدد فهو بالحقيقة الكم المنفصل.
ومن المقولات العشرة:
الإضافة. وهي المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر وليس له وجود غيره، مثل الأبوة بالقياس إلى البنوة، لا كالأب فإن له وجودا يخصه كالإنسانية.
وأما الكيف، فهو كل هيئة قارة في جسم لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة للجسم إلى خارج، ولا نسبة واقعة في أجزائه ولا لجملته اعتبارا يكون به ذا جزء، مثل البياض والسواد. وهو إما أن يكون مختصا بالكم من جهة ما هو كم، كالتربيع بالسطح، والاستقامة بالخط، والفردية بالعدد، وإما أن لا يكون مختصا به.
وغير المختص به: إما أن يكون محسوسا تنفعل عنه الحواس ويوجد بانفعال الممتزجات، فالراسخ منه مثل صفرة الذهب, وحلاوة العسل يسمى كيفيات انفعاليات، وسريع الزوال منه وإن كان كيفية بالحقيقة فلا يسمى كيفية, ومنه ما لا يكون محسوسا فإما أن يكون استعدادات إنما تتصور في النفس بالقياس إلى كمالات، فإن كل استعداد للمقاومة وإباء للانفعال سمي قوة طبيعية، كالمصحاحية والصلابة، وإن كان استعدادا لسرعة الإذعان والانفعال سمي لا قوة طبيعية، مثل الممراضية واللين. وإما أن تكون في أنفسها كمالات لا يتصور أنها استعدادت لكمالت أخرى وتكون مع ذلك غير محسوسة بذاتها، فما كان ثابتا منها يسمى ملكة، مثل العلم والصحة، وما كان سريع الزوال سمي حالا، مثل غضب الحليم ومرض المصحاح. وفرق بين الصحة والمصحاحية، فإن المصحاح قد لا يكون صحيحا، والممراض قد يكون صحيحا.
ومن جملة العشرة: الأين وهو كون الجوهر في مكانه الذي يكون فيه: ككون زيد في السوق. و"متى" وهو كون الجوهر في زمانه الذي يكون فيه، مثل كون هذا الأمر أمس، و"الوضع" وهو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان إن كان في مكان، مثل القيام والقعود، وهو في المعنى غير الوضع المذكور في باب الكم، و"الملك" ولست أحصله، ويشبه أن يكون: كون الجوهر في جوهر يشمله وينتقل بانتقاله، مثل التلبس والتسلح، و"الفعل" وهو نسبة الجوهر إلى أمر موجود منه في غيره, غير قار الذات بل لا يزال يتجدد وينصرم، كالتسخين والتبريد، و"الانفعال" وهو نسبة الجوهر إلى حالة فيه بهذه الصفة، مثل التقطع والتسخن.
والعلل أربع: يقال علة للفاعل ومبدأ الحركة، مثل النجار للكرسي، ويقال علة للمادة وما يحتاج أن يكون حتى تكون ماهية الشيء، مثل الخشب، ويقال علة للصورة في كل شيء يكون، فإنه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكون، ويقال علة للغاية والشيء الذي نحوه ولأجله الشيء، مثل الكن للبيت. وكل واحدة من هذه إما قريبة أو بعيدة، وإما بالقوة, وإما بالفعل، وإما بالذات وإما بالعرض، وإما خاصة وإما عامة. والعلل الأربع قد تقع حدودا وسطى في البراهين، لإنتاج قضايا محمولاتها أعراض ذاتية. وأما العلتان الفاعلية والقابلية فلا يجب من وضعهما وضع المعلول وإنتاجه ما لم يقترن بذلك ما يدل على صيرورتهما علة بالفعل. والله الموفق.
في تفسير ألفاظ يحتاج إليها المنطقي:
الظن: الحق أنه رأى في شيء أنه كذا ويمكن أن لا يكون كذا.
والعلم: اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا بواسطة توجبه: والشيء كذلك في ذاته. وقد يقال "علم" لتصور الماهية بتحديد.
والعقل: اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا طبعا بلا واسطة، كاعتقاد المبادئ الأولى للبراهين. وقد يقال "عقل" لتصور الماهية بذاتها بلا تحديدها كتصور المبادئ الأولى للحد.
والذهن: قوة للنفس معدة نحو اكتساب العلم.
والذكاء: قوة استعداد للحدس.
والحدس: حركة النفس إلى إصابة الحد الأوسط إذا وضع المطلوب، أو إصابة الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط، وبالجملة سرعة انتقال الذهن من معلوم إلى مجهول.
والحس: إنما يدرك الجزئيات الشخصية.
والذكر والخيال: يحفظان ما يؤديه الحس على شخصيته. أما الخيال فيحفظ الصورة. وأما الذكر فيحفظ المعنى المأخوذ، وإذا تكرر الحس صار ذكرا، وإذا تكرر الذكر كان تجربة.
والفكر: حركة ذهن الإنسان نحو المبادئ، ليصير منها إلى المطالب.
والصناعة: ملكة نفسانية تصدر عنها أفعال إرادية بغير روية.
والحكمة: خروج النفس الإنساني إلى كماله الممكن في جزأي العلم والعمل. أما في جانب العلم, فأن يكون متصورا للموجودات كما هي ومصدقا للقضايا كما هي، وأما في جانب العمل, فأن يكون قد حصل له الخلق الذي يسمى العدالة والملكة الفاضلة. والفكر العقلي ينال الكليات مجردة، والحس والخيال والذكرتنال الجزئيات. فالحس يعرض على الخيال أمورا مختلطة، والخيال على العقل، ثم العقل يفعل التمييز. ولكل واحد من هذه المعاني معونة في صواحبها في قسمي التصور والتصديق.















مصادر و المراجع :      

١- الملل والنحل

المؤلف: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)

الناشر: مؤسسة الحلبي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید