المنشورات
شجرة طيبة
وهذه الكلمة الطيبة كأنّها المعنيّة بقوله: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمّة طيّبةً كشجرةً طيّبةٍ، أصلها ثابت وفرعها في السّمّاء، تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربها.
وفي تلك السطور كلم كثير، كلّه عند الباري، تقدّس، أثير. فقد غرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجر في الجنة لذيذ اجتناءً، كلُّ شجرةٍ منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظلٍّ غاطٍّ ليست في الأعين كذات أنواطٍ. وذات أنواطٍ، كما يعلم، شجرة كانوا يعظمونها في الجاهلية. وقد روي أن بعض الناس قال: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ، وقال بعض الشعراء:
لنا المهيمن يكفينا أعادينا، ... كما رفضنا إليه ذات أنواط
والولدان المخلّدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود، وبالمغفرة نيلت السُّعود؛ يقولون، والله القادر على كلِّ شيء عزيز: نحن وهذه الشجر صلّة من الله لعليّ بن منصور، نخبأ له إلى نفخ الصُّور.
وتجري في أصول ذلك الشجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثر يمدُّها في كلّ أوانٍ؛ من شرب منها النُّغبة فلا موت، قد أمن هنالك الفوت. وسعد من اللبن متخرِّفات، لا تغيَّر بأن تطول الأوقات. وجعافر من الرحيق المختوم، عزَّ المقتدر على كلّ محتوم. تلك الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الذائمة، بل هي علقمة مفترياً، ولم يكن لعفوٍ مقترياً:
تشفي الصُّداع ولا يؤذيه صالبها، ... ولا يخالط منها الرأس تدويم
ويعمد إليها المغترف بكؤوس من العسجد، وأباريق خلقت من الزبرجد، ينظر منها الناظر إلى بديّ، ما حلم به أبو الهنديّ، رحمه الله، فلقد آثر شراب الفانية، ورغب في الدّنية الدّانية. ولا ريب أنّه يروي ديوانه، وهو القائل:
سيغني أبا الهنديّ عن وطب سالمٍ ... أباريق لم يعلق بها وضر الزُّبد
مفدمة قزّاً كأنّ رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرعد
هكذا ينشد على الإقواء وبعضهم ينشد:
رقاب بنات الماء ريعت من الرعد
والرواية الأولى إنشاد النحويين. وأبو الهندي إسلاميٌّ، واسمه عبد المؤمن بن عبد القدُّوس، وهذان اسمان شرعيان، وما استشهد بهذا البيت إلا وقائله عند المستشهد فصيح، فإن كان أبو الهنديّ ممن كتب وعرف حروف المعجم فقد أساء في الإقواء، وإن كان بنى الأبيات على السكون، فقد صحَّ قول سعيد بن مسعدة، في أن الطويل من الشعر له أربعة أضرب.
ولو رأى تلك الأباريق أبو زبيد لعلم أنّه كالعبد الماهن أو العبيد، وأنّه ما تشبّث بخيرٍ، ورضي بقليل المير وهزىء بقوله:
وأباريق مثل أعناق طير ال ... ماء قد جيب فوقهن خنيف
هيهات! هذه أباريق، تحملها أباريق، كأنّها في الحسن الأباريق.
فالأولى هي الأباريق المعروفة، والثانية من قولهم: جارية إبريق، إذا كانت تبرق من حسنها: قال الشاعر:
وغيداء إبريقٍ كأن رضابها ... جنى النحل ممزوجاً بصهباء تاجر
والثالثة، من قولهم: سيف إبريق، مأخوذ من البريق. قال ابن أحمر:
تقلدت إبريقاً، وعلقت جعبةً ... لتهلك حيّاً ذا زهاءٍ وجامل ولو نظر إليها علقمة لبرق وفرق، وظنَّ أنه قد طرق، وأين يراها المسكين علقمة، ولعله في نار لا تغير، ماؤها للشارب وغيرٌ؟ ما ابن عبدة وما فريقه؟؟؟! خسر وكسر إبريقه! أليس هو القائل:
كأن إبريقهم ظبيٌ برابيةٍ ... مجللٌ، بسبا الكتّان مفدوم
أبيض أبرزة للضَّحّ راقبه ... مقلد قضب الرَّيحان، مفغوم
نظرةٌ إلى تلك الأباريق، خيرٌ من بيت الكرمة العاجلية، ومن كل ريقٍ، ضمنته هذه الدار الخادعة، التي هي لكلَّ شممٍ جادعةٌ.
ولو بصر بها عدي بن زيد، لشغل عن المدام والصَّيد، واعترف بأن أباريق مدامه، وما أدرك من شرب الحيرة وندامه، أمرٌ هينٌ، لا يعدل بنابتٍ من حمصيص، أو ما حقر من خربصيص.
وكنت بمدينة السّلام، فشاهدت بعض الورّاقين يسأل عن قافية عدي ابن زيد التي أوّلها:
بكر العاذلات في غلس الصُّب ... ح يعاتبنه أما تستفيق؟
ودعا بالصَّبوح فجراً، فجاءت ... قينةٌ في يمينها إبريق
وزعم الورَّاق أن ابن حاجب النعمان سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخٍ من ديوان عديّ فلم توجد. ثمّ سمعت بعد ذلك رجلاً من أهل أستراباذ، يقرأ هذه القافية في ديوان العباديّ، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم: فأمّا الأقَّيشر الأسديّ فإنه مني بقاشر، وشقي إلى يومٍ حاشر، قال ولعله سيندم، إذا تفرَّى الأدم:
أفنى تلاديّ، وما جمعت من نشبٍ ... قرع القوازيز أفواه الأباريق
ما هو وما شرابه؟ تقضَّت في الحانية آرابه. لو عاين تلك الأباريق لأيقن أنّه فتن بالغرور، وسرَّ بغير موجب للسّرور. وكذلك إياس بن الأرتّ، إن كان عجب لأباريق كإوزّ الطَّفّ فإن الحوادث بسطت له أقبض كفّ. فكأنه ما قال:
كأن أباريق المدامة بينهم ... إوزٌّ بأعلى الطَّفّ، عوج الحناجر
ورحم الله العجَّاج، فإنّه خلط في رجزه العلبط والسَّجاج، أين إبريقه الذي ذكر فقال:
قطَّف من أعنابها ما قطفَّا، ... فغمَّها حولين، ثمّ استودفا
صهباء، خرطوماً، عقاراً، فرقفا، ... فسنَّ في الإبريق منها نزفا
من رصفٍ نازع سيلاً رصفا وكم على تلك الأنهار من آنية زبرجدٍ محفور، وياقوتٍ خلق على خلق الفور، من أصفر وأحمر وأزرق، يخال إن لمس أحرق، كما قال الصنوبريُّ:
تخيَّله ساطعاً وهجه، ... فتأبى الدُّنو إلى وهجه
وفي تلك الأنهار أوانٍ على هيئة الطير السابحة، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صور الكراكي، وأخر تشاكل المكاكيّ، وعلى خلق طواويس وبطّ، فبعضٌ في الجارية وبعضٌ في الشَّطّ،
مصادر و المراجع :
١- رسالة الغفران
المؤلف: أحمد بن
عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى:
449هـ)
الناشر: مطبعة
(أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر
صححها ووقف على
طبعها: إبراهيم اليازجي
الطبعة: الأولى،
1325 هـ - 1907 م
16 يوليو 2024
تعليقات (0)