المنشورات

خمر الجنة

ينبع من أفواهها شرابٌ، كأنه من الرَّقَّة سرابٌ، لو جرع جرعةً منه الحكميُّ لحكم أنّه الفوز القدميُّ. وشهد له كلُّ وصَّاف الخمر، من محدثٍ في الزمن وعتيق الأمر، أنّ أصناف الأشربة المنسوبة إلى الدار الفانية، كخمر عانة وأذرعات، وهي مظنَّةٌ للنُّعّات؛ وغزّة وبيت راس والفلسطية ذوات الأحراس؛ وما جلب من بصرى في الوسوق، تبغى به المرابحة عند سوق، وما ذخره ابن بجرة ب وجّ، واعتمد به أوقات الحجّ، قبل أن تحرَّم على الناس القهوات، وتحظر لخوف الله الشهوات. قال أبو ذؤيب:
ولو أنَّ ما عند ابن بجرة عندها ... من الخمر، لم تبلل لهاتي بناطل
وما اعتصر ب صرخد أو أرض شبام لكلّ ملكٍ غير عبام؛ وما تردَّد ذكره من كميت بابل وصريفين واتُّخذ للأشراف المنيفين؛ وما عمل من أجناس المسكرات، مفوّقاتٍ للشارب وموكّرات، كالجعة والبتع والمزر والسُّكركة ذات الوزر؛ وما ولد من النخبل، لكريمٍ يعترف أو بخيل، وما صنع في أيَّام آدم وشيثٍ إلى يوم المبعث من معجَّلٍ أو مكيث إذ كانت تلك النُّطفة ملكةً، لا تصلح أن تكون برعاياها مشتبكة.
ويعارض تلك المدامة أنهارٌ من عسلٍ مصفَّى ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مومٍ متوارٍ، ولكن قال له العزيز القادر: كن فكان، وبكرمه أعطي الإمكان. واهاً لذلك عسلاً لم يكن بالنار مبسلا لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد ما قدر له عارض موم، ولا لبس ثوب المحموم؛ وذلك كلُّه بدليل قوله: مثل الجنة التي وعد المتُّقون، فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ، وانهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفًّى، ولهم فيها من كلّ الثّمرات، فليت شعري عن النَّمر بن تولبٍ العكليّ، هل يقدر له أن يذوق ذلك الأري، فيعلم أن شهد الفانية إذا قيس غليه وجد يشاكه الشَّري؛ وهو لمَّا وصف أمّ حصٍن وما رزقته في الدَّعة والأمن، ذكر حوّارى بسمن، وعسلٍ مصفًّى؛ فرحمه الخالق متوفّىً، فقد كان أسلم وروي حديثاً منفرداً، وحسبنا به للكلم مسردّاً. قال المسكين النمر:
ألمّ بصحبتي، وهم هجوعٌ، ... خيالٌ طارقٌ من أمّ حصن
لها ما تشتهي: عسلاً مصًّفى، ... إذا شاءت، وحوَّارى بسمن
وهو، أدام الله تمكينه، يعرف حكاية خلفٍ الأحمر مع أصحابه في هذين البيتين،ومعناها أنّه قال لهم: لو كان موضع أمّ حصن أمُّ حفص، وما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: حوّاريّ بلمص، يعني الفالوذ ويفرّع على هذه الحكاية فيقال: لو كان مكان أمّ حصن أمُّ جزء وآخره همزةٌ، ما كان يقول في القافية الثانية؟ فإنّه يحتمل أن يقول: وحوارى بكشء، ٍ من قولهم: كشأت اللحم إذا شويته حتى ييبس، ويقال: كشأ الشواء إذا أكله. أو يقول بوزء، من قولهم: وزأت اللحم إذا شويته. ولو قال: حوَّارى بنسء، لجاز وأحسن ما يتأؤّل فيه، أن يكون من نسأ الله في أجله، أي لها خبزٌ مع طول حياة، وهذا أحسن من أن يحمل على أن النسء اللبن الكثير الماء، وقد قيل: إن النسء الخمر، وفسروا بيت عروة بن الورد على الوجهين:
سقوني النّسء ثم تكنَّفوني، ... عداة الله من كذبٍ وزور
ولو حمل حوّ؟ ارى بنسء، على اللبن أو الخمر، لجاز، لأنّها تأكل الحوارى بذلك، أي لها الحوَّارى مع الخمر، وقد حدّث محدّثٌ أنه رأى بسيل ملك الروم وهو يغمس خبزاً في خمرٍ ويصيب منه، ولو قيل: حوَّارى بلزء، من قولهم: لزأ إذا أكل، لما بعد، وتكون الباء في بلزء بمعنى في.
ولا يمكن أن يكون رويُّ هذا البيت ألفاً، لأنّها لا تكون إلاّ ساكنة، وما قبل الرويّ ها هنا ساكنٌ، فلا يجوز ذلك.
فإن خرج إلى الباء: من أمّ حرب، جاز أن يقول: وحوَّارى بصرب، وهو اللبن الحامض، ويجوز بإرب، أي بعضوٍ من شواءٍ أو قديد، ويجوز بكشب وهو أكل الشواء.
فإن قال: من أمّ صمت، جاز أن يقول: وحواري بكمت، يعني جمع تمرةٍ كميت، وذلك من صفات التمر، وينشد للأسود ابن يعفر:
وكنت إذا ما قرَّب الزاد مولعاً ... بكلّ كميتٍ جلدةٍ لم توسَّف
وقال الآخر:
ولست أبالي بعدما اكمتَّ مربدي ... من التمر، أن لا يمطر الأرض كوكب
ويجوز وحوَّارى بحمت، من قولهم: تمرٌ حمتٌ، أي شديد الحلاوة.
فإن أخرجه إلى الثاء فقال: من أمّ شثّ، قال: وحوَّارى ببثّ، والبثُّ: تمرٌ لم يجد كنزه فهو متفرق.
فإن أخرجه إلى الجيم فقال: أمّ لجّ، جاز أن يقول: وحوّارى بدجّ، والدُّجُّ: الفرُّوج، جاء به العمانيُّ في رجزه.
فإن خرج إلى الحاء، فقال: من أمّ شحّ، جاز أن يقول: وحوارى بمحّ، وببحّ، وبرّح، وبجحّ، وبسحّ. فالمحُّ: محّ البيضة، وبحُّ: جمع أبحَّ، من قولهم: كسرٌ أبحُّ، أي كثير الدّسم، وقال:
وعاذلة هبَّت عليَّ تلومني، ... وفي كفّها كسرٌ أبحٌ رذوم
ويجوز أن يعنى بالبحّ القداح، أي هذه المرأة أهلها أيسار، كما قال السُّلميُّ:
قروا أضيافهم ربحاً ببحّ، ... يعيش بفضلهنَّ الحيُّ، سمر
ورحٌّ: جمع أرحَّ، وهو من صفات بقر الوحش، أي يصاد لهذه المرأة، ويقال لأظلاف البقر: رحٌّ، قال الشاعر الأعشى:
ورحٌّ بالزّماع مردَّفاتٌ، ... بها تنضو الوغى وبها ترود
والسحُّ: تمرٌ صغير يابس. والجحُّ: صغار البطيخ قبل أن ينضج.
فإن قال: أمُّ دخّ، قال: حوَّارى بمخّ، ونحو ذلك.
فإن قال: أمّ سعد، قال: حوَّارى بثعد، وهو الرُّطب الذي لان كلُّه.
فإن قال: أمّ وقذ، قال: حوارى بشقذ، وهي فراخ الحجل.
فإن قال: أمّ عمرو، فإنَّ أشبه ما يقول: حوّارى بتمر.
فإن قال: أمّ كرز، فإن أشبه ما يقول: وحوَّارى بأرز، وفيه لغات ستّ: أرزٌ على وزن أشدّ، وأرزّ على صملّ، وأرزٌ على وزن شغل، وأرزٌ في وزن قفل، ورزّ مثل جدٍّ، ورنز، بنونٍ وهي رديئة.
فإن قال: أمّ ضبس، قال: وحوّارى بدبس. والعرب تسمّي العسل دبساً. وكذلك فسروا قول أبي زبيد:
فنهزةٌ من لقوا حسبتهم ... أشهى إليه من بارد الدبس
حرَّك للضرورة.
فإن قال: من أمّ قرشٍ، جاز أن يقول: حوَّارى بورش، والورش: ضربٌ من الجبن، ويجوز أن يكون مولَّداً، وبه سمّي ورشٌ الذي يروي عن نافع واسمه عثمان بن سعيد.
والصاد قد مضت.
فإن قال: أمّ غرض، جاز أن يقول: حوَّارى بفرض، والفرض: ضربٌ من التمر، قال الراجز:
إذا أكلت لبناً وفرضا ... ذهبت طولاً وذهبت عرضاً
وفي نصب طول وعرض اختلافٌ بين المبرّد وسيبويه.
فإن قال: من أمّ حظّ، فإن الأطعمة تقلُّ فيها الظاء، كقلَّتها في غيرها، لأن الظاء قليلةٌ جدّاً، ويجوز أن يقول: حوَّارى بكظّ، أي يكظّها الشّبع، أو نحو ذلك من الأشياء التي تدخل على معنى الاحتيال.
فإن قال: أمّ طلع، جاز أن يقول: حوَّارى بخلع، والخلع: هو اللحم الذي كان يطبح ويحملونه في القروف وهي أوعيةٌ من أدم، وينشد:
كلي اللحم الغريض، فإنَّ زادي ... لمن خلعٍ تضمنَّه القروف
فإن قال: أمّ فرع، جاز أن يقول: حوَّارى بضرع، لأن الضروع تطبخ، وربمّا تطرب إلى أكلها الملوك فإن قال: أمّ مبغ، قال: حوّارى بصبغ، والصبَّغ ما تغمس فيه اللقمة من مرقٍ أو زيت أو خلٍّ.
فإن قال: أمّ نخف، قال: حوَّارى برخف، والرخف زبدٌ رقيق، والواحدة رخفة، قال الشاعر:
لنا غنمٌ يرضي النزيل حليبها، ... وزحفٌ يغاديه لها وذبيح
فإن قال: أمّ فرق، قال: حوّارى بعرقٍ، والعرق: عظمٌ عليه لحمٌ من شواءٍ أو قديد.
فإن قال: أمّ سبك، جاز أن يقول: حوّارى بربك، أو بلبك، من قولهم: ربكت الطعام أو لبكته، إذا خلطته، وكان ذلك ممّا فيه رطوبةٌ، مثل أن يخالطه لبنٌ أو سمنٌ، أو نحو ذلك، ولا يقال: ربكت الشعير بالحنطة، إلاّ أن يستعار.
فإن قال: أمّ تخل، قال: حوّارى برخل، يريد الأنثى من أولاد الضأن، وفيه أربع لغات: رَخِل ورَخْلٌ ورِخْلٌ ورِخِلٌ.
فإن قال: أمّ صرم، قال: حوارى بطرم، والطرم: العسل، وقد يسمَّى السمن طرماً.
وقد مضت النون في أمّ حصن.
فإن قال: أم دوّ، قال: حو؟ ّارى بجوّ، والحوُّ: الجدي، فيما حكى بعض أهل اللغة في قولهم: ما يعرف حوّاً من لوٍّ، أي جدياً من عناقٍ.
فإن قال: أمّ كره، قال: حوّارى بوره، يريد جمع أوره، من قولهم: كبشٌ أوره، أي سمين.
فإن قال: أمّ شري، قال: حوارى بأري، أي عسل.
وهذا فصل يتّسع، وإنمّا عرض في قول تامٍ، كخيال طرق في المنام.
ولو خالط منا من عسل الجنان، وما خلقه الله، سبحانه، في هذه الدار الخادعة، كالصاب، والمقر، والسَّلع، والجعدة، والشَّيح، والهبيد، لعاد ذلك كلُّه، وغيره من المعقبات، يعدُّ من اللذائذ المرتقيات، فآض ما كره من الصَّاب، كأنَّه المعتصر من المصاب، والمصاب: قصب السكر، وأمسى الحدج وكأنّه المتخذٌّ بالأهواز، إلاّ يكن السُّكرّ، فإنه موازٍ؛ ولصارت الراعية في الإبل، إذا وجدت الحنظلة أتحفت بها السيدة المحظلة، وهي التي تعظم عليها الغيرة، من قولهم: حظل نساءه، إذا أفرط في الغيرة عليهنَّ، قال الراجز:
ولا ترى بعلاً ولا حلائلا ... كه، ولا كهنَّ إلا حاظلا
وانقطعت معايش أرباب القصب في ساحل البحر، وصنع من المرّ الفالوذ المحكم بلا سحر أي بلا خدع.
ولو أن الحارث بن كلدة طعم من ذلك الطّريم لعلم أن الذي وصفه يجري من هذا المنعوت، مجرى الدّفلى الشّاقة من الرّعديد، ومدوف، ما يكره من القنديد، وذكرت الحارث بقوله:
فما عسلٌ ببارد ماء مزنٍ ... على ظماءٍ، لشاربه يشاب
بأشهى من لقيكم إلينا، ... فكيف لنا به، ومتى الإياب
وكذلك السَّلوى التي ذكرها الهذلي هي عند عسل الجنّة كأنَّها قارٌ رمليَّ، والقار: شجرٌ مرّ ينبت بالرَّمل، قال: بشرٌ:
يرجون الصَّلاح بذات كهفٍ، ... وما فيها لهم سلعٌ وقار
وعنيت قول القائل:
فقاسمها بالله جهداً لأنتم ... ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورها
وإذا من الله تبارك اسمه بورود تلك النهار، صاد فيها الوارد سمك حلاوةٍ، لم ير مثله في ملاوة، لو بصر به أحمد بن الحسين لاحتقر الهد؟ ّية التي أهديت إليه فقال فيها:
أقل ما في أقلّها سمكٌ، ... يلعب في بركةٍ من العسل
فأمَّا الأنهار الخمريّة، فتلعب أسماكٌ هي على صور السَّمك بحريَّةٌ ونهريّة، وما يسكن منه في العيون النَّبعية، ويظفر بضروب النَّبت المرّعية، إلاّ أنّه من الذَّهب والفضّة وصنوف الجواهر، المقابلة بالنُّور الباهر. فإذا مدّ المؤمن يده إلى واحدةٍ من ذلك السَّمك، شرب من فيها عذباً لو وقعت الجرعة منه في البحر الذي لا يستطيع ماءه الشارب، لحلت منه أسافل وغوارب؛ ولصار الصمَّر كأنَّه رائحة خزامى سهلٍ، طلتَّه الدَّاجنة بدهل، والدَّهل: الطائفة من اللَّيل، أو نشر مدامٍ خوَّارةٍ، سيَّارةٍ في القلل سوَّارة.
وكأنّي به، أدام الله الجمّال ببقائه، إذا استحقَّ تلك الرُّتبة، ببقين التوبة، وقد اصطفى له نامى من أدباء الفردوس: كأخي ثمالة، وأخي دوسٍ، ويونس بن حبيب الضُّبيّ، وابن مسعدة المجاشعيّ، فهم كما جاء في الكتاب العزيز: " ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سررٍ متقابلين، لا يمسُّهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين " فصدر أحمد بن يحيى هنالك قد غسل من الحقد على محمد بن يزيد، فصارا يتصافيان ويتوافيان، كأنهّا ندمانا جذيمة: مالكٌ وعقيل، جمعها مبيتٌ ومقيل وأبو بشر، عمرو بن عثمان سيبويه، قد رحضت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة الكسائي وأصحابه، لما فعلوا به في مجلس البرامكة. وأبو عبيدة صافي الطويّة لعبد الملك بن قريب، قد ارتفعت خلتَّهما عن الرَّيب، فهما كأربد ولبيد أخوان، أو ابني نويرة فيما سبق من الأوان، أو صخرٍ ومعاوية: ولدي عمرو، وقد أخمدا من الإحن كلّ جمر. والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ، سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار. وهو أيَّد الله العلم بحياته، معهم كما قال البكريُّ:
نازعتهم قضب الرّيحان مرتفقاً،
وقهوةً مزَّةً، راووقها خضل
لا يستفيقون منها وهي راهنةٌ
إلا بهات، وإن علُّوا وعن نهلوا
يسعى بها ذو زجاجات له نطفٌ
مقلَّص أسفل السّربال، معتمل
ومستجيبٌ لصوت الصَّنج يسمعه
إذا ترجع فيه القنية الفضل وأبو عبيدة يذاكرهم بوقائع العرب ومقاتل الفرسان، والأصمعيُّ ينشدهم من الشعر ما أحسن قائله كلَّ الإحسان.
وتهشّ نفوسهم للَّعب فيقذفون تلك الآنية في أنهار الرّحيق، ويصفقّها الماذي المعترض أي تصفيق، وتقترع تلك الآنية، فيسمع لها أصواتٌ، تبعث بمثلها الأموات. فيقول الشيخ، حسّن الله الأيّام بطول عمره: آه لمصرع الأعشى ميمون وكم أعمل من مطيَّةٍ أمون!! ولقد وددت أنَّه ما صدّته قريشٌ لمَّا نوجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّما ذكرته الساعة لمّا تقارعت هذه الآنية بقوله في الحائيّة:
وشمول تحسب العين، إذا ... صفّقت، جندعها نور الذُّبح
مثل ريح المسك ذاكٍ ريحها، ... صبّها الساقي إذا قيل: توح
من زقاق التَّجر، في باطيةٍ ... جونةٍ، حاريّةٍ ذات روح
ذات غورٍ، ما تبالي يومها، ... غرف الإبريق منها والقدح
وإذا ما الرَّاح فيها أزبدت ... أفل الإزباد عنها، فمصح
وإذا مكوكها صادمه ... جانباها، كرَّ فيها فسبح
فترامت بزجاجٍ معملٍ ... يخلف النَّازح منها ما نزح
وإذا غاضت رفعنا زقّنا ... طلق الأوداج فيها فانسفح
ولو أنَّه أسلم، لجاز أن يكون بيننا في هذا المجلس، فينشدنا غريب الأوزان، ممّا نظم في دار الأحزان، ويحدّثنا حديثه مع هوذة بني عليّ، وعامر بن الطُّفيل، ويزيد بن مسهر وعلقمة بن علائة، وسلامة بن ذي فائش، وغيرهم ممّن مدحه أو هجاه، وخافه في الزمن أو رجاه.
ثمّ إنّه، أدام الله تمكينه، يخطر له حديث شيءٍ كان يسمَّى النُّزهة في الدار الفانية، فيركب نجيباً من نجب الجنّة خلق من ياقوتٍ ودرٍّ، في سجسجٍ بعد عن الحرّ والقرّ، ومعه إناء فيهج، فيسير في الجنَّة على غير منهج، ومعه شيءٌ من طعام الخلود، ذخر لوالد سعد أو مولودٍ، فإذا رأى نجيبه يملع بين كثبان العنبر، وضيمرانٍ وصل بصعبرٍ، رفع صوته متمثَّلاً بقول البكريّ:
ليت شعري متى تخبُّ بنا النَّا ... قة نحو العذيب فالصّيبون
محقباً زكرةً، وخبز رقاقٍ، ... وحباقاً، وقطعةً من نون
يعني بالحباق جرزة البقل.
فيهتف هاتفٌ: أتشعر أيّها العبد المغفور له لمن هذا الشَّعر؟ فيقول الشيخ: نعم، حدّثنا أهل ثقتنا، عن أهل ثقتهم، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء، فيرويه لهم عن أشياخ العرب، حرشة الضَّباب في البلاد الكلدات وجناة الكمأة في مغاني البداة، الذين لم يأكلوا شيراز الألبان ولم يجعلوا الثمر في الثَّبان، أنَّ هذا الشّعر لميمون بن قيس ابن جندلٍ أخي بني ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن عليّ بن بكر بن وائلٍ فيقول الهاتف: أنا ذلك الرَّجل، من الله عليَّ بعدما صرت من جهنّم على شفير، ويئست من المغفرة والتّكفير. فيلتفت إليه الشيخ هشّاً بشّاً مرتاحاً، فإذا هو بشابّ غرانق غبر في النّعيم المفانق، وقد صار عشاه حور معروفاً، وانحناء ظهره قواماً موصوفاً، فيقول: أخبرني كيف كان خلاصك من النار، وسلامتك من قبيح الشنار؟ فيقول: سحبتني الزبانية إلى سقر، فرأيت رجلاً في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، والنّاس يهتفون به من كلّ أوبٍ: يا محمَّد يا محمّد، الشفاعة الشّفاعة! نمتُّ لكذا ونمتُّ بكذا. فصرخت في أيدي الزبانية: يا محمّد أغثني فإنّ لي بك حرمةً! فقال: يا عليُّ بادره فانظر ما حرمته؟ فجاءني عليُّ بن أبي طالبٍ، صلوات الله عليه، وأنا أعتل كي ألقى في الدّرك الأسفل من النّار، فزجرهم عني، وقال: ما حرمتك؟ فقلت: أنا القائل:
ألا أيُّهذا السّائلي أين يمّمت، ... فإنَّ لها في أهل يثرب موعدا
فآليت لا أرثي لها من كلالة، ... ولا من حفىً، حتى تلاقي محمّدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشمٍ ... تراحي، وتلقي من فواضله ندى
أجدَّك لم تسمع وصاة محمّدٍ ... نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُّقى ... وأبصرت بعد الموت من قد تزودَّا
ندمت على أن لا تكون كمثله، ... وأنّك لم ترصد لما كان أرصدا
فإيّاك والميتات لا تقربنّها! ... ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا
ولا تقربنَّ جارةً إن سرَّها ... عليك حرامٌ، فانكحن أو تأبّدا
نبيٌّ يرى مالا يرون، وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
وهو، أكمل الله زينة المحافل بحضوره، يعرف الأقوال في هذا البيت، وإنّما أذكرها لأنّه قد يجوز أن يقرأ هذا الهذيان ناشىءٌ لم يبلغه: حكى الفرّاء وحده أغار في معنى غار، إذا أتى الغور، وإذا صحّ هذا البيت للأعشى فلم يرد بالإغارة إلا ضدَّ الإنجاد. وروي عن الأصمعيّ روايتان: إحداهما أنَّ أغار في معنى عدا عدواً شديداً، وأنشد في كتاب الأجناس:
فعدّ طلابها وتسلَّ عنه ... بناجيةٍ إذا زجرت تغير
والأخرى أنّه كان يقدّم ويؤخَّر فيقول: لعمري غار في البلاد وأنجدا فيجيء به على الزّحاف. وكان سعيد بن مسعدة يقول: غار لعمري في البلاد وأنجدا فيخرمه في النصف الثاني.














مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید