المنشورات

ايمان الأعشى

ويقول الأعشى: قلت لعلّيٍ: وقد كنت أومن بالله وبالحساب وأصدّق بالبعث وأنا في الجاهليّة الجهلاء، فمن ذلك قولي:
فما أيبلي على هيكلٍ، ... بناه وصلَّب فيه وصارا
يراوح من صلوات المليك ... طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
بأعظم منك تقىً في الحساب ... إذا النَّسمات نفضن الغبارا
فذهب عليَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أعشى قيس قد روي مدحه فيك، وشهد أنّك نبيٌّ مرسلٌ.
فقال: هلاَّ جاءني في الدّار السَّابقة؟ قال: عليُّ: قد جاء، ولكن صدَّته قريشٌ وحبُّه للخمر. فشفع لي،فأدخلت الجنّة على أن لا أشرب فيها خمراً؛ فقرَّت عيناي بذلك، وإنَّ لي منادح في العسل وماء الحيوان. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة، لم يسقها في الآخرة.
وينظر الشيخ في رياض الجنَّة فيرى قصرين منيفين، فيقول في نفسه: لأبلغنَّ هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصرلزهير بن أبي سلمى المزني وعلى الآخر: هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسديّ فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهليّة، ولكّن رحمة ربنّا وسعت كلَّ شيء؛ وسوف ألتمس لقاء هذين الرّجلين فأسألهما بم غفر لهما. فيبتدىء بزهير فيجده شابّاً كالزَّهرة الجنيَّة، قد وهب له قصرٌ من ونيَّة، كأنّه ما لبس جلباب هرمٍ، ولا تأفَّف من البرم. وكأنَّه لم يقل في الميمّية:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم! ولم يقل في الأخرى:
ألم ترني عمَّرت تسعين حجّةً،
وعشراً تباعاً عشتها، وثمانيا؟ فيقول: جير جير! أنت أبو كعب وبجير؟ فيقول: نعم. فيقول، أدام الله عزّه: بم غفر لك وقد كنت في زمان الفترة والنَّاس هملٌ، لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً، وكنت مؤمناً بالله العظيم، ورأيت فيما يرى النَّائم حبلاً نزل من السَّماء، فمن تعلق به من سكَّان الأرض سلم، فعلمت أنَّه أمرٌ من أمر الله، فأوصيت بنيَّ وقلت لهم عند الموت: إن قام قائمٌ يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه. ولو أدركت محمّداً لكنت أوَّل المؤمنين.
وقلت في الميميّة، والجاهليّة على السّكنة والسّفه ضاربٌ بالجران:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم
يؤخّر، فيوضع في كتابٍ، فيدَّخر
ليوم الحساب، أو يعجَّل فينقم فيقول: ألست القائل:
وقد أغدو على ثبةٍ كرامٍ ... نشاوى واجدين لما نشاء
يجرُّون البرود وقد تمشَّت ... حميّا الكأس فيهم والغناء
أفأطلقت لك الخمر كغيرك من أصحاب الخلود؟ أم حرَّمت عليك مثلما حرّمت على أعشى قيس فيقول زهيرٌ: إن أخا بكرٍ أدرك محمّداً فوجبت عليه الحجَّة، لأنّه بعث بتحريم الخمر، وحظر ما قبح من أمر؛ وهلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجّة عليَّ.
فيدعوه الشَّيخ إلى المنادمة؛ فيجد من ظراف النَّدماء، فيسأله عن أخبار القدماء.
ومع المنصف باطيةٌ من الزُّمرُّد، فيها من الرَّحيق المختوم شيءٌ يمزج بزنجبيل، والماء أخذ من سلسبيل. فيقون، زاد الله في أنفاسه: أين هذه الباطية من التي ذكرها السّرويُّ في قوله:
ولنا باطيةٌ مملوءةٌ ... جونةٌ، يتبعها برذينها
فإذا ما حاردت أو بكأت ... فتَّ عن خاتم أخرى طينها
ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسدٍ. فيقول: وعليك السلام، وأهل الجنّة أذكياء، لا يخالطهم الأغبياء، لعلَّك تريد أن تسألني بم غفر لي؟ فيقول: أجل، وإنّ في ذلك لعجباً! أألفيت حكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرَّحمة محجَّباً؟ فيقول عبيدٌ: أخبرك أنّي دخلت الهاوية، وكنت قلت في أيّام الحياة:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
وسارهذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل ينشد ويخفُّ عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كرِّر إلى أن شملتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإنَّ ربّنا لغفور رحيم.
فإذا سمع الشَّيخ، ثبّت الله وطأته، ما قال ذانك الرّجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء.
فيقول لعبيدٍ: ألك علم بعديِّ بن زيدٍ العباديّ؟ فيقول: هذا منزله قريباً منك. فيقف عليه فيقول: كيف كانت سلامتك على الصَّراط ومخلصك من بعد الإفراط؟ فيقول: إنِّي كنت على دين المسيح ومن كان من أتباع الأنبياء قبل أن يبعث محمد فلا بأس عليه، وإنّما التّبعة على من سجد للأصنام، وعدّ في الجهلة من الأنام. فيقول الشيخ: يا أبا سوادة، ألا تنشدني الصاديَّة، فإنها بديعة من أشعار العرب؟ فينبعث منشداً:
أبلغ خليلي عبد هند فلا ... زلت قريباً من سواد الخصوص
موازي القرّة، أو دونها، ... غير بعيدٍ من غمير الُّلصوص
تجنى لك الكمأة ربعَّية، ... بالخبِّ تندى في أصُّول القصيص
تقنصك الخيل، وتصطادك ال ... طّير، ولا تنكع لهو القنيص
تأكل ما شئت، وتعتلُّها ... حمراء ملحص كلون الفصوص
غيبت عنّي عبد في ساعة ال ... شَّر وجنِّبت أوان العويص
لا تنسين ذكري على لذّة ال ... الكأس وطوفٍ بالخذوف النَّحوص
إنَّك ذو عهد وذو مصدقٍ ... مخالفاً هدي الكذوب اللَّموص
يا عبد هل تذكرني ساعةً ... في موكب، أو رائداً للقنيص
يوماً مع الرّكب، إذا أوفضوا ... نرفع فيهم من نجاء القلوص
قد يدرك المبطيء من حظّه، ... والخير قد يسبق جهد الحريص
فلا يزل صدرك في ريبةٍ، ... يذكر مني تلفي أو خلوص
يا نفس أبقي، واتَّقي شتم ذي ال ... أعراض، إنَّ الحلم ما إن ينوص
يا ليت شعري وإن ذو عجةٍ ... متى أرى شرباً حوالي أصيص
بيت جلوفٍ، باردٍ ظلُّه، ... فيه ظباء، ودواخيل خوص
والرَّبرب، المكفوف أردانه ... يمشي رويداً، كتوقيِّ الرَّهيص
ينفخ من أردانه المسك، وال ... عنبر، والغلوى، ولبني قفوص
والمشرف المشمول نسقي به، ... أخضر، مطموثاً بماء الخريص
ذلك خير من فيوجٍ على ال ... باب، وقيدين، وغلّ قروص
أو مرتقى نيقٍ على نقنقٍ، ... أدبر، عودٍ ذي إكافٍ قموص
لا يثمن البيع، ولا يحمل ال ... رَّدف، ولا يعطى به قلب خوص
أو من نسورٍ حول موتى معاً، ... يأكلن لحماً من طريّ الفريص
فيقول الشيخ: أحسنت والله أحسنت، لو كنت الماء الراكد لما أسنت. وقد عمل أديب من أدباء الإسلام قصيدة على هذا الوزن، وهو المعروف بأبي بكر بن دريدٍ، قال:
يسعد ذو الجدِّ ويشقي الحريص، ... ليس لخلقٍ عن قضاء محيص
ويقول فيها:
أين ملوك الأرض من حميرٍ ... أكرم من نصَّت إليهم فلوص
جيفر الوهَّاب أودى به، ... دهر على هدم المعالي حريص
إلاّ أنَّك يا أبا سوادة أحرزت فضيلة السَّبق.
وما كنت أختار لك أن تقول:
يا ليت شعري وان ذو عجَّةٍ
لأنّك لا تخلو من أحد أمرين: إمَّا أن تكون قد وصلت همزة القطع وذلك رديء، على أنّهم قد أنشدوا:
أن لن أقاتل، فألبسوني برقعاً، ... وفتخاتٍ في اليدين أربعا
ويزيد ما فعلت من إسقاط الهمزة بعداً أنّك حذفت الألف التي بعد النون، فإذا حذفت الهمزة من أوّل الكلمة بقيت على حرفٍ واحدٍ، وذلك بها إخلال.
وإمّا أن تكون حقَّقت الهمزة فجعلتها بين بين، ثم اجترأت على تصييرها ألفاً خالصةٍ، وحسك بهذا نقضاً للعادة، ومثل ذلك قول القائل:
يقولون: مهلاً ليس للشيخ عيَّلٌ ... فها أنا قد أعيلت وان رقوب
ولو قلت:
يا ليت شعري أنا ذو عجَّةٍ
فحذفت الواو، لكان عندي أحسن وأشبه. فيقول عديُّ ابن زيد: إنّما قلت كما سمعت أهل زمني يقولون، وحدثت لكم في الإسلام أشياء ليس لنا بها علم، فيقول الشيخ: لا أراك تفهم ما أريده من الأغراض، ولقد هممت أن أسألك عن بيتك الذي استشهد به سيبويه، وهو قولك:
أرواح مودع أم بكور، أنت، فانظر لأيِّ حالٍ تصير
فإنه يزعم أنَّ أنت يجوز أن يرتفع بفعلٍ مضمرٍ يفسره قولك: فانظر، وأنا استبعد هذا المذهب ولا أظنُّك أردته. فيقول عديّ بن زيدٍ: عني من هذه الأباطيل، ولكني كنت في الدار الفانية صاحب قنص، ولعلَّه قد بلغك قولي:
ولقد أغدوا بطرفٍ زانه ... وجه منزوفٍ وخدِّ كالمسن
ذي تليلٍ، مشنقٍ قائده، ... يسر في الكفِّ، نهدٍ، ذي غسن
مدمجٍ كالقدح، لا عيب به، ... فيرى فيه، ولا صدع أبن
رمَّه الباري، فسوّى درأه ... غمز كفيّه، وتخليق السَّفن
أيُّ ثغرٍ ما يخف يندب له، ... ومتى يخل من القود يصن
كربيب البيت يفري جلّه، ... طاعة العضِّ، وتسحير اللَّبن
فبلغنا صنعه حتى شتا، ... ناعم البال لجوجاً في السنن
فإذا جال حمار موحش، ... ونعام نافر بعد عنن
شاءنا ذو ميعةٍ يبطرنا ... خمر الأرض وتقديم الجنن
يدأب الشدَّ بسحٍّ مرسلٍ ... كاحتفال الغيث بالمرِّ اليفن
أنسل الذِّرعان غرب خذم ... وعلا الرَّبرب أزم لم يدن
فالذي يمسكه بحمده يحمده، ... تثق كالسيِّد، ممتدُّ الرَّسن
وإذا نحن لدينا أربع ... يهتدي السائل عنّا بالدَّخن
وقولي في القافية:
ومجودٍ قد أسجهرَّ تناوي ... كلون العهون في الأعلاق
عن خريف سقاه نوء من الدَّل ... وتدلَّى، ولم توار العراقي
لم يعبه إلا الأداحيُّ فقد وب ... ر بعض الرِّئال في الأفلاق
وإران الثِّيران حول نعاجٍ ... مطفلاتٍ، يحمين بالأوراق
وتراهن كالأعزَّة في المح ... فل، أو حين نعمةٍ وارتفاق
قد تبطَّنته بكفّيَّ خرَّا ... ج من الخيل، فاضل في السَّباق
يسر في القياد نهد، ذقيف ال ... عدو، عبل الشّوى أمين العراق
لم يقيَّل حرَّ المقيظ، ولم يل ... جم لطوفٍ، ولا فساد نزاق
غير تيسيره لرغباء إن كا ... نت، وحربٍ إن قلَّصت عن ساق
وله النَّعجة المريُّ تجاه ال ... رَّكب، عدلاً بالنَّابىء المخراق
والخدبُّ العاري الزَّوائد ملحفا ... ن، داني الدِّماغ للآماق
فهل لك أن نركب فرسين من خيل الجنَّة فنبعثهما على صيرانها، وخيطان نعامها، وأسراب ظبائها، وعانات حمرها، فإن للقنيص لذّة قد تنغصت لك بها؟ فيقول الشيخ: إنّما أنا صاحب قلم وسلمٍ، ولم أكن صاحب خيل، ولا ممَّن يسحب طويل الَّليل، وزرتك إلى منزلك مهنئاً بسلامتك من الجحيم، وتنعمُّمك بعفو الرحيم. وما يؤمنني إذا ركبت طرفاً زعلاً رتع في رياض الجنَّة فآض من الأشر مستسعلاً، وأنا كما قال القائل:
لم يركبوا الخيل إلاّ بعدما كبروا ... فهم ثقال على أكنافها عنف
أن يلحقني ما لحق جلماً صاحب المتجرِّدة لمّا حمل على اليحموم، والتَّعرض لما لم تسبق بع العادة من الموم وقد بلغك ما لقي ولد رهيرٍ لمَّا وقص عن العتد ذي المير، فسلك في طريقٍ وعبٍ، وما انتفع ببكاء كعب؛ وكذلك ولدك علقمة، حلَّت في العاجلة به النقمة، لمَّا ركب للصَّيد فأصبح كجدَّه زيد، وقلت فيه:
أنعم صباحاً علقم بن عديّ ... أثويت اليوم لم ترحل!
وإنِّي لأحار يا معاشر العرب في هذه الأوزان التي نقلها عنكم الثّقات، وتداولتها الطبّقات؛ ومن كلمتك التي على الرَّاء، وأوّلها:
قد آن أن تصحو أو تقصر، ... وقد أتى لما عهدت عصر
عن مبرقات بالبرين، وتب ... دو بالأكف اللامعات سور
بيض عليهنَّ الدَّمقس وبال ... أعناق من تحت الأكفة درّ
ويجوز أن يقذفني السابح على صخور زمردٍ فيكسر لي عضداً أو ساقاً، فأصير ضحكةً في أهل الجنان.
فيبتَّسم عديّ ويقول: ويحك! أما علمت أنَّ الجنة لا يرهب لديها السَّقم، تنزل بسكنها النَّقم؟ فيركبان سابحين من خيل الجنة، مركب كلِّ واحدٍ منهما لو عدل بممالك العاجلة الكائنة من أوَّلها إلى آخرها لرجح بها، وزاد في القيمة عليها. فإذا نظر إلى صوار ترتع في دقاري الفردوس، والدَّقاريُّ: الرياض، صوب مولاي الشيخ المطرد، وهو الرُّمح القصير، لأخنس ذيَّال قد رتع هناك طويل أيام وليال؛ فإذا لم يبق بين السنان وبينه إلا قيد ظفرٍ، قال: أمسك، رحمك الله، فإني لست من وحش الجنَّة التي أنشأها الله سبحانه ولم تكن في الدار الزائلة، ولكنيَّ كنت في محلة الغرور أرود في بعض القفار، فمرَّ بي ركب مؤمنون قي كري زادهم، فصرعوني واستعانوا بي على السَّفر، فعوضني الله، جلَّت كلمته، بأن أسكنني في الخلود. فيكفُّ عنه مولاي الشيخ الجليل.
ويعمد لعلجٍ وحشيٍّ، ما التلف عنده بمخشيّ، فإذا صار الخرص منه بقدر أنملة قال: أمسك يا عبد الله، فإن الله أنعم عليَّ ورفع عني البؤس، وذلك أنّي صادني صائد بمخلب، وكان إهابي له كالسلب، فباعه في بعض الأمصار، وصراه للسَّانية صارٍ، فاتُّخذ منه غربٌ، شفي بمائة الكرب، وتطَّهر بنزيعه الصَّالحون، فشملتني بركةٌ من أولئك، فدخلت الجنَّة أرزق فيها بغير حساب. فيقول الشيخ: ى فينبغي أن تتميزَّن، فما كان منكنَّ دخل الفانية فما يجب أن يختلط بوحوش الجنَّة. فيقول ذلك الوحشيُّ: لقد نصحتنا نصح الشقيق، وسوف نمتثل ما أمرت.
وينصرف مولاي الشيخ الجليل وصاحبه عديّ فإذا هما برجلٍ يحتلب ناقةً في إناءٌ من ذهب، فيقولان: من الرَّجل؟ فيقول: أبو ذؤيب الهذليُّ. فيقولان: حييَّت وسعدت، لا شقيت في عيشك ولا بعدت، أتحتلب مع أنهار لبن؟ كأنَّ ذلك من الغبن. فيقول: لا بأس! إنما خطر لي ذلك مثلما خطر لكما القنيص، وإني ذكرت قولي في الدّهر الأول:
وإنَّ حديثاً منك، لو تعلمينه،
جنى النّحل في ألبان عوذٍ مطافل
مطافيل أبكارٍ، حديث نتاجها ... تشاب بماٍ مثل ماء المفاصل
فقيَّض الله بقدرته لي هذه النّاقة عائذاً مطفلاً. وكان بالنَّعم متكفّلاً، فقمت أحتلب على العادة، وأريد أن أشوب ذلك بضّرب نحلٍ، تبعن في الجنّة طريقة الفحل.
فإذا امتلأ إناؤه من الرَّسل، كوّن الباري، جلَّت عظمته، خليّةً من الجوهر، رتع ثولها في الزَّهر، فاجتنى ذلك أبو ذؤيب، ومزج حليبه بلا ريب، فيقولك ألا تشربان؟ فيجرعان من ذلك المحلب جرعاً لو فرَّقت على أهل سقر لفازوا بالخلد شرعاً. فيقول عديُّ: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لقد جاءت رسل ربنا بالحقَّ.
ونودوا أن تلكم الجنّة، أورثتموها بما كنتم تعملون.
ويقول، أدام تمكينه، لعديّ: جئت بشيئين في شعرك، وددت أنَّك لم تأت بهما، أحدهما قولك:
فصاف، يفرّي جلَّه عن سراته
يبذُّ الرّهان فارهاً متشابعاً والآخر قولك:
فليت دفعت الهمَّ عنّي ساعة ... ، فنمسي على ما خيَّلت ناعمي بال
فيقول عديُّ بعباديته: يا مكبور، لقد رزقت ما يكب أن أن يشغلك عن القريض، إنما ينبغي أن تكون كما قيل لك: " كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون " قوله يامكبور، يريد: يامجبور، فجعل الجيم كافاً، وهي لغةٌ رديئةٌ يستعملها أهل اليمن. وجاء في بعض الأحاديث: أن الحارث بن هانىء بن أبي شمر بن جبلة الكندي، استلحم يوم ساباط فنادى: يا حكر يا حكر، يريد: يا حجر بن عديَّ الأدبر. فعطف عليه فاستنفذه. ويكب: في معنى يجب. فيقول، زاد الله في أنفاسه: إنَّي سألت ربَّي عزَّ سلطانه، ألاّ يحرمني في الجنّة تلذُّذاً بأدبي الذي كنت أتلذّذ به في عاجلتي، فأجابني إلى ذلك، وله الحمد في السّموات والأرض وعشيًّا وحين تظهرون.
















مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید