المنشورات

النابغتان

ويمضي في نزهته تلك بشابيَّن يتحادثان، كلُّ واحدٍ منهما على باب قصرٍ من درٍّ؛ قد أعفي من البؤّس والضُّرّ. فيسلّم عليهما ويقول: من أنتما رحمكما الله، وقد فعل؟ فيقولان: نحن النابغتان، نابغة بني جعدة ونابغة بني ذبيان. فيقول، ثبَّت الله وطأته: أمّا نابغة جعدة فقد أستوجب ما هو فيه بالحنيفيَّة، وأمّا أنت يا أبا أمامة فما أدري ما هيّانك؟ أي ما جهتك، فيقول الذُّبيانيُّ: إني كنت مقرّاً بالله، وحججت البيت في الجاهليَّة، ألم تسمع قولي:
فلا لعمر الذي قد زرته حججاً،
وما هريق على الأنصاب من جسد
والمؤمن العائذات الطير تمسحها ... ركبان مكَّة بين الغيل والسَّند
وقولي:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً،
وهل يأثمن ذو إمَّةٍ وهو طائع
بمصطحباتٍ من لصافٍ وثبرةٍ،
يردن ألالاً، سيرهنّ تدافع ولم أدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فتقوم الحجّة عليَّ بخلافه. وإنَّ الله تقدَّست أسماؤه، عزَّ ملكاً وجلَّ، يغفر ما عظم بما قلَّ. فيقول، لا زال قوله عالياً: يا أبا سوادة، ويا أبا أمامة، ويا أبا ليلى، اجعلوها ساعة منادمةٍ، فإنَّ من قول شيخنا العباديّ:
أيُّها القلب تعلَّل بددن ... إنَّ همَّي في سماعٍ وأذن
وشرابٍ خسروانّيٍ، إذا ... ذاقه الشيخ تغنَّى وأرجحن
وقال:
وسماعٍ يأذن الشّيخ له ... وحديثٍ مثل ماذيٍّ مشار
فكيف لنا بأبي بصير؟ فلا تتُّم الكلمة إلا وأبو بصيرٍ قد خمسهم، فيسبَّحون الله ويقدّسونه ويحمدونه على أن جمع بينهم، ويتلو، جمّل الله ببقائه، هذه الآية: " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ".
فإذا أكلوا من طيّبات الجنَّة، وشربوا من شرابها الذي خزنه الله لعباده المتّقين قال، كتَّ الله أنف مبغضه: يا أبا أمامة إنَّك لحصيف الرأي لبيبٌ، فكيف حسَّن لك لبُّك أن تقول للنُّعمان بن المنذر:
زعم الهمام بأنَّ فاها باردٌ ... عذبٌ. إذا ما ذقته قلت ازدد
زعم الهمام، ولم أذقه، بأنّه ... يشفى ببرد لثاتها العطش الصدى
ثمَّ استمرَّ بك القول، حتى أنكره عليك خاصَّةٌ وعامَّةٌ؟
فيقول النابغة بذكاءٍ وفهم: لقد ظلمني من عاب عليَّ، ولو أنصف لعلم أنَّني احترزت أشد احترازٍ. وذلك أنَّ النعمان كان مستهتراً بتلك المرأة، فأمرني أن أذكرها في شعري، فأردت ذلك في خلدي فقلت: إن وصفتها وصفاً مطلقاً، جاز أن يكون بغيرها معلَّقاً. وخشيت أن أذكر اسمها في النَّظم، فلا يكون ذلك موافقاً للملك، لأنَّ الملوك يأنفون من تسمية نسائهم، فرأيت أن أسند الصَّفة إليه فأقول: زعم الهمام، إذ كنت لو تركت ذكره لظنَّ السَّامع أن صفتي على المشاهدة، والأبيات التي جاءت بعد، داخلةٌ في وصف الهمام، فمن تأمَّل المعنى وجده غير مختلٍّ. وكيف ينشدون: وإذا نظرت فرأيت أقمر مشرقاً وما بعده؟
فيقول، أرغم الله أنف شانئه: ننشد: وإذا نظرت، وإذا لمست، وإذا طعنت، وإذا نزعت، على الخطاب. فيقول النابغة: قد يسوغ هذا، ولكنَّ الأجود أن تجعلوه إخباراً عن المكلّم، لأنّ قولي: زعم الهمام يؤدّي معنى قولنا: قال الهمام، فهذا أسلم، إذ كان الملك إنما يحكي عن نفسه. وإذا جعلتموه على الخطاب قبح: إن نسبتموه إليَّ فهو منديةٌ، وإن نسبتموه إلى النّعمان فهو إزراءٌ وتنقُّض. فيقول: أيدَّ الله الفضل بزيادة مدتّه: الله درُّك يا كوكب بني مرّة. ولقد صحف عليك أهل العلم من الرواة، وكيف لي بأبوي عمرو: المازنيّ والشّيبانيّ، وأبي عبيدة، وعبد الملك، وغيرهم من النّقلة لأسألهم: كيف يروون، وأنت شاهدٌ، لتعلم أني غير المتحرّض ولا الولاَّغ؟ فلا يقرُّ هذا القول في حذنَّة أبي أمامة إلاّ والرواة أجمعون قد أحضرهم الله القادر، من غير مشقّةٍ نالتهم، ولا كلفةٍ في ذلك أصابتهم، فيسلّمون بلطفٍ ورفقٍ. فيقول، أعلى الله قوله: من هذه الشّخوص الفردوسيَّة؟ فيقولون: نحن الرُّواة الذين شئت إحضارهم آنفاً فيقول: لا إله إلاّ الله مكونَّاً مدوّناً، وسبحان الله باعثاً وارثاً، وتبارك الله قادراً لا غادراً!! كيف تروون أيُّها المرحومون قول النابغة في الداليَّة: وإذا نظرت، وإذا لمست، وإذا طعنت، وإذا نزعت، أبفتح التاء أم بضمّها؟ فيقولون: بفتحها. فيقول: هذا شيخنا أبو أمامة يختار الضَّمّ، ويخبر أنّه حكاه عن النَّعمان. فيقولون: هو كما جاء في الكتاب الكريم: " والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " فيقول، ثبّت الله كلمته على التوفيق: مضى الكلام في هذا يا أبا أمامة، فأنشدنا كلمتك التي أوّلها:
ألمَّا على المطمورة المتأبّدة، ... أقامت بها المربع المتجرّدة
مضمَّخة بالمسك مخضوبة الشَّوى
بدرٍ وياقوتٍ لها متقلّدة
كأنَّ ثناياها، وما ذقت طعمها،
مجاجة نحلٍ في كميتٍ مبرَّده
ليقرر بها النّعمان عيناً فإنّها ... له نعمةٌ، في كل يومٍ مجدده
فيقول أبو أمامة: ما أذكر أنّي سلكت هذا القريَّ قطُّ. فيقول مولاي الشيخ، زيَّن الله أيّامه ببقائه: إن ذلك لعجبٌ، فمن الذي تطوَّع فنسبها إليك؟ فيقول: إنَّها لم تنسب إليَّ على سبيل التَّطوع، ولكن على معنى الغلط والتَّوهمُّ، ولعلَّها لرجل من بني ثعلبة بن سعد. فيقول نابغة بني جعدة: صحبني شابٌّ في الجاهليّة ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر أنَّه من ثعلبة بن عكابة، وصادف قدومه شكاةً من النُّعمان فلم يصل إليه. فيول نابغة بني ذبيان: ما أجدر ذلك أن يكون! ويقول الشيخ، كتب الله لو مثوبة المتقيّن، لنابغة بني جعدة: يا أبا ليلى، أنشدنا كلمتك التي على الشين التي تقول فيها:
ولقد أغدو بشربٍ أنفٍ، ... قبل أن يظهر في الأرض ربش
معنا زقٌّ إلى سهمةٍ، ... تسق الآكال من رطبٍ وهشّ
فنزلنا بمليعٍ مقفرٍ ... مسَّه طل من الدَّجن ورشّ
ولدينا قينةٌ مسمعةٌ ... ضخمة الأرداف من غير نفش
وإذا نحن بإجل نافرٍ، ... ونعامٍ خيطه مثل الحبش
فحملنا ماهناً ينصفنا، ... فوق يعبوب من الخيل أجش
ثمّ قلنا: دونك الصَّيد به ... تدرك المحبوب منَّا وتعش
فأتانا بشبوبٍ ناشط ... وظليمٍ، ومعه أمُّ خشش
فاشتوينا من غريض طيّبٍ ... غير ممنونٍ، وأبنا بغبش
فيقول نابغة بني جعدة: ما جعلت الشّين قطُّ رويّاً، وفي هذا الشعر ألفاظٌ لم أسمع بها قطُّ: ربشٌ، وسهمة، وخششٌ.
فيقول مولاي الشيخ الأديب المغرم بالعلم: يا أبا ليلى، لقد طال عهدك بألفاظ الفصحاء، وشغلك شرابٌ ما جاءتك بمثله بابل ولا أذرعات، وثنتك لحوم الطَّير الرّاتعة في رياض الجنَّة، فنسيت ما كنت عرفت، ولا ملامة إذا نسيت ذلك، " إنّ أصحاب الجنَّة اليوم في شغلٍ فاكهون، هم وأزواجهم في ظلالٍ على الأرائك متَّكئون، لهم فيها فاكهةٌ ولهم ما يدَّعون ".
أما ربش، فمن قولهم: أرضٌ ربشاء إذا ظهرت فيها قطعٌ من النَّبات وكأنَّها مقلوبةٌ عن برشاء، وأمَّا السهمة فشبيهةٌ بالسُّفرة تتَّخذ من الخوص، وأمّا خشش فإنّ عمرو الشَّيبانيّ ذكر في كتاب الخاء أن الخشش ولد الظبَّية.
فكيف تنشد قولك:
وليس بمعروف لنا أن نردّها ... صحاحاً، ولا مستنكراً أن تعقَّرا
أتقول: ولا مستنكراً، أم مستنكرٍ؟ فيقول الجعديُّ: بل مستنكراً. فيقول الشيخ: فإن أنشد منشدٌ: مستنكرٍ، ما تصنع به؟ فيقول: أزجره وأزبره، نطق بأمرٍ لا يخبره.
فيقول الشيخ، طول الله له أمد البقاء: إنّا لله وإنَّا إليه راجعون، ما أرى سيبويه إلاَّ وهم في هذا البيت، لأنَّ أبا ليلى أدرك جاهليةً وإسلاماً، وغذي بالفصاحة غلاماً.
وينثني إلى أعشى قيس فيقول: ... يا أبا بصيرٍ أنشدنا قولك:
أمن قتلة بالأنقا ... ء دارٌ غير محلولة
كأن لم تصحب الحيَّ ... بها بيضاء عطبوله
أناةٌ ينزل القوسيَّ ... منها منظرٌ هوله
وما صهباء من عانة ... في الذارع محموله
تولَّى كرمها أصه ... ب يسقيه ويغدو له
ثوت في الخرس أعواماً، ... وجاءت، وهي مقتوله
بماء المزنة الغرّا ... ء راحت، وهي مشموله
بأشهى منك للظّمآ ... ن لو أنَّك مبذوله
فيقول أعشى قيس: ما هذه ممّا صدر عنَّي، وإنَّك منذ اليوم لمولعٌ بالمنحولات.
ويمرُّ رفٌ من إوزّ الجنَّة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الرَّوضة ويقف وقوف منتظر لأمرٍ، ومن شأن طير الجنَّة أن يتكلَّم، فيقول: ما شأنكنَّ؟ فيقلن: ألهمنا أن نسقط في هذه الرَّوضة فنغنّي لمن فيها من شربٍ. فيقول: على بركة الله القدير. فينتفضن، فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنَّة، وبأيديهنّ المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي. فيعجب، وحقَّ له العجب، وليس ذلك ببديعٍ من قدوة الله جلَّت عظمته، وعزَّت كلمته، وسبغت على العالم نعمته، ووسعت كلَّ شيءٍ رحمته، ووقعت بالكافر نقمته. فيقول لإحداهنَّ على سبيل الامتحان: اعملي قول أبي أمامة، وهو هذا القاعد:
أمن آل ميَّة رائحٌ أو مغتد، ... عجلان ذا زادٍ وغير مزوَّد؟
ثقيلاً أوَّل. فتصنعه، فتجيء به مطرباً، وفي أعضاء السامع متسربّاً. ولو نحت صنمٌ من أحجار، أو دفٌّ أشر عند النَّجَّار، ثمّ سمع ذلك الصوت لرقص، وإن كان متعالياً هبط ولم يراع أن يوقص. فيرد عليه، أورد الله قلبه المحابّ، زولٌ، تعجز عنه الحيل والحول، فيقول: هلمَّ خفيف الثَّقيل الأوَّل! فتنبعث فيه بنغمٍ لو سمعه الغريض، لأقرَّ أنَّ ما ترنَّم به مريضٌ. فإذا أجادته، وأعطته المهرة وزادته، قال: عليك بالثقيل الثاني، ما بين مثالثك والمثاني؛ فتأتي به على قريٍّ لو سمعه عبد الله بن جعفر لقرن أغانيَّ بديحٍ إلى هدير ذي المشفر. فإذا رأى ذلك قال: سبحان الله! كل ما كشفت القدرة بدت لها عجائب، لا تثبت لها النجائب؛ فصيري إلى خفيف الثقيل الثاني، فإنّك لمجيدةٌ محسنة، تطرد بغنائك السّنة. فإذا فعلت ما أمر به، أتت بالبرحين، وقالت للأنفس: ألا تمرحين؟ ثمَّ يقترح عليها: الرَّمل وخفيفه، وأخاه الهزج وذفيفة؛ وهذه ألألحان الثمانية، للأذن تمنيها المانية.
فإذا تيقّن لها حذافةً، وعرف منها بالعود لباقةً، هلَّل وكبَّر، وأطال حمد ربَّه واعتبر. وقالك ويحك! ألم تكوني السّاعة إوزَّةً طائرة، والله خلقك مهديَّة لا حائرة؟ فمن أين لك هذا العلم، كأنّك لجذل النفس خلم؟ لو نشأت بين معبدٍ وابن سريج، لما هجت السامع بهذا الهيج، فكيف نفضت بله إوزّ، وهززت إلى الطَّرب أشدَّ الهزَّ؟ فتقول: وما الذي رأيت من قدرة بارئك؟ إنّك على سيف بحرٍ، لا يدرك له عبرٌ، سبحان من يحيي العظام وهي رميم.













مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید