المنشورات

رباب

ويقول نابغة بني جعدة، وهو جالس يستمع: يا أبا بصير أهذه الربَّاب التي ذكرها السّعديُّ، هي ربابك التي ذكرتها في قولك:
بعاصي العواذل، طلق اليدي ... ن يعطي الجزيل، ويرخي الإزارا
فما نطق الدِّيك حتى ملأ ... ت كوب الزَّباب له فاستدارا
إذا انكبَّ أزهر بين السُّقا ... ة تراموا به غرباً أو نضاراً
فيقول أبو بصيرٍ: قد طال عمرك يا أبا ليلى، وأحسبك أصابك الفند، فبقيت على فندك إلى اليوم! أما علمت أنَّ اللواتي يسمَّين بالرَّباب أكثر من أن يحصين؟ أفتظن أنَّ الربّاب هذه، هي التي ذكرها القائل:
ما بال قومك يا رباب ... خزراً كأنّهم غضاب
غاروا عليك، وكيف ذا ... ك ودونك الخرق اليباب
أو التي ذكرها امرؤ القيس في قوله:
دار لهندٍ، والربَّاب، وفرتنى، ... ولميس، قبل حوادث الأيام
ولعلّ أمّها أمُّ الربّاب المذكورة في قوله:
وجارتها أمِّ الربّاب بمأسل
فيقول نابغة بني جعدة: أتكلمني بمثل هذا الكلام يا خليع بني ضبيعة، وقد مُتَّ كافراً، وأقررت على نفسك بالفاحشة، وأنا لقيت النبيَّ، صلى الله عليه وسلّم، فأنشدته كلمتي التي أقول فيها:
بلغنا السّماء مجدنا وسناءنا، ... وإنّا لنبغي فوق ذلك مظهرا!
فقال: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقلت: إلى الجنّة بك يا رسول الله! فقال: لا يفضض الله فاك.
أغرّك أن عدَّك بعض الجهَّال رابع الشُّعراء الأربعة؟ وكذب مفضِّلك، وإنِّي لأطول منك نفساً، وأكثر تصرُّفاً. ولقد بلغت بعدد البيوت ما لم يبلغه أحد من العرب قبلي، وأنت لاهٍ بعفارتك، تفتري على كرائم قومك. وإن صدقت فخزياً لك ولمقارّك! ولقد وفِّقت الهزّانيّة في تخليتك: عاشرت منك النّابح، عشي فطاف الأحوية على العظام المنتبذة، وحرص على انتباث الأجداث المنفردة.
فيغضب أبو بصير فيقول: أتقول هذا وإنَّ بيتاً ممّا بنيت ليعدل بمائةٍ من بنائك؟ وإن أسهبت منطقك، فإنَّ المسهب كحاطب الليل. وإنّي لفي الجرثومة من ربعية الفرس، وإنّك لمن بني جعدة، وهل جعدة إلاّ رائدة ظليم نفور؟ أتعيِّرني في مدح الملوك؟ ولو قررت يا جاهل على ذلك لهجرت إليه أهلك وولدك، ولكنّك خلقت جباناً هداناً، لا تدلج في الظّلماء الدّاجية، ولا تهجَّر في الوديقة الصاخدة. وذكرت لي طلاق الهزّانية ولعلّها بانت عني مسرّة الكمد، والطّلاق ليس بمنكرٍ للسُّوق ولا للملوك.
فيقول الجعديُّ: اسكت يا ضلَّ بني ضلّ، فأقسم أنّ دخولك الجنَّة من المنكرات، ولكنَّ الأقضية جرت كما شاء الله! لحقُّك أن تكون في الدّرك الأسفل من النّار، ولقد صلي بها من هو خير منك، ولو جاز الغلط على ربِّ العزّة، لقلت: إنَّك غلط بك! ألست القائل:
فدخلت إذ نام الرّقي ... ب، فبتُّ دون ثيابها
حتى إذا ما استرسلت ... للنّوم، بعد لعابها
قسَّمتها نصفين ك ... لُّ مسوَّدٍ يرمى بها
فثنيت جيد غريرةٍ، ... ولمست بطن حقابها
كالحقَّة الصّفراء صا ... ك عبيرها بملابها
وإذا لها تامورة ... مرفوعة لشرابها
واستقللت ببني جعدة، وليوم من أيَّامهم يرجح بمساعي قومك. وزعمتني جباناً وكذبت! لأنا أشجع منك ومن أبيك، وأصبر على إدلاج المظلمة ذات الأريز، وأشدُّ إيغالاً في الهاجرة أمِّ الصَّخدان.
ويثب نابغة بني جعدة على أبي نصير فيضربه بكوز من ذهب. فيقول: أصلح الله به وعلى يديه: لا عربدة في الجنان، إنّما يعرف ذلك في الدار الفانية بين السَّفلة والهجاج، وإنّك يا أبا ليلى لمتنزِّع. وقد روى في الحديث، أنَّ رجلاً صاح بالبصرة: يا آل قيسٍ! فجاء النابغة الجعديُّ بعصيّةٍ له، فأخذه شرط ابي موسى الأشعريّ فجلده لأنَّ النبيَّ، صلّى الله عليه وسلّم، قال: من تعزىّ بعزاء الجاهليّة فليس منّا. ولولا أنَّ في الكتاب الكريم: " لا يصدَّعون عنها ولا ينزفون " لظننَّاك أصابك نزف في عقلك. فأمّا أبو بصيرٍ فما شرب إلاّ اللَّبن والعسل، وإنَّه لوقور في المجلس، لا يخفُّ عند حلِّ الحبوة. وإنّما مثله معنا مثل أبي نواسٍ في قوله:
أيُّها العاذلان في الراح لوما ... لا أذوق المدام إلاَّ شميما
نالني بالعتاب فيها إمام ... لا أرى لي خلافه مستقيما
إنّ حظيَّ منها، إذا هي دارت، ... أن أراها، وأن أشمَّ النّسيما
فاصرفاها إلى سواي، فإنّي ... لست إلا على الحديث نديما
فكأنّي وما أحسِّن منها، ... قعديُّ يحسِّن التَّحكيما
لم يطق حمله السّلاح إلى الحر ... ب، فأوصى المطيق ألاّ يقيما
فيقول نابغة بني جعدة قد كان النّاس في أيّام الخادعة يظهر عنهم السَّفه بشرب الّلبن، لا سيَّما إذا كانوا أرقَّاء لئاماً، كما قال الراجز:
يا ابن هشام أهلك النّاس اللَّبن ... فكلُّهم يغدو بسيفٍ وقرن
وقال آخر:
ما دهر ضبَّة، فاعلم، نحت أثلتنا ... وإنّما هاج من جهَّالها اللَّبن
وقيل لبعضهم: متى يخاف شرُّ بني فلانٍ؟ قال: إذا ألبنوا. فيريد، بلَّغه الله إرادته، أن يصلح بين النُّدماء، فيقول: يحب أن يحذر من ملكٍ يعبر فيرى هذا المجلس، فيرفع حديثه إلى الجبار الأعظم، فلا يجرُّ ذلك إلاَّ ما تكرهان، واستغنى ربُّنا أن ترفع الأخبار إليه، ولكن جرى مجرى الحفظة في الدار العاجلة، أما علمتما أنّ آدم خرج من الجنَّة بذنبٍ حقير، فغير آمنٍ من ولد أن يقدر له مثل ذلك.
فسألتك يا أبا بصير بالله هل يهجس لك تمنَّي المدام؟ فيقول: كلا والله! إنها عندي لمثل المقر لا يخطر ذكرها بالخلد. فالحمد لله الذي سقاني عنها السُّلوانة، فما أحفل بأمِّ زنبقٍ أخرى الدهر.
وينهض نابغة بني جعدة مغضباً، فيكره، جنَّبه الله المكاره، انصرافه على تلك الحال، فيقول: يا أبا ليلى، إنَّ الله، جلَّت قدرته، منَّ علينا بهؤلاء الحور العين اللواتي حوَّلهنَّ عن خلق الإوز، فاختر لك واحدة منهنَّ فلتذهب معك إلى منزلك، تلاحنك أرقَّ اللَّحان. وتسمعك ضروب الألحان. فيقول لبيد بن ربيعة: إن أخذ أبو ليلى قينةً، وأخذ غيره مثلها، أليس ينتشر خبرها في الجنَّة، فلا يؤمن أن يسمَّى فاعلو ذلك أزواج الإوزّ.
فتضرب الجماعة عن اقتسام أولئك القيان.










مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید