المنشورات

قول عديُّ بن زيد

أعاذل قد لاقيت ما بزع الفتى
وطابقت في الحجلين مشي المقيَّد
والغراب يوصف بالتَّقييد لقصر نساه، قال الشاعر:
ومقيّدٍ بين الدِّيار كأنَّه ... حبشيُّ داجنةٍ يخرُّ ويعتلي
فيقول بشَّارٌ: يا هذا! دعني من أباطيلك فإنِّي لمشغولٌ عنك. ويسأل عن امرىء القيس بن حجر، فيقل: ها هو ذا بحيث يسمعك. فيقول: يا أبا هند إنَّ رواة البغداديين ينشدون في قفا نبك، هذه الأبيات بزيادة الواو في أوَّلها، أعني قولك:
وكأنَّ ذرى رأس المجيمر غدوةً
وكذلك:
وكأنَّ مكاكيَّ الجواء
وكأنَ السِّباع فيه غرقى فيقول: أبعد الله أولئك! لقد أساؤوا الرواية، وإذا فعلوا ذلك فأيُّ فرقٍ يقع بين النّظم والنّثر؟ وإنما ذلك شيءٌ فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنَّه المتأخِّرون أصلاً في المنظوم، وهيهات هيهات! فيقول: أخبرني عن قولك: كبكر المقاناة البياض بصفرةٍ ماذا أردت بالبكر؟ فقد اختلف المتأوِّلون في ذلك فقالوا: البيضة، وقالوا: الدُّرّة، وقالوا: الرّوضة، وقالوا الزّهرة، وقالوا: البرديّة.
وكيف تنشد: البياضِ، أم البياضَ، أم البياضُ؟ فيقول: كلُّ ذلك حسنٌ، وأختار البياض، بالكسر، فيقول: فرَّغ الله ذهنه للآداب: لو شرحت لك ما قال النحويّون في ذلك لعجبت. وبعض المعلِّمين ينشد قولك.
من السِّيل والغثاء فلكة مغزل
فيشدِّد الثاءً. فيقول: إنّ هذا لجهولٌ. وهو نقيض الذين زادو الواو في أوائل الأبيات: أولئك أرادوا النَّسق، فأفسدوا الوزن: وهذا البأس أراد أن يضحِّح الزَّنة فأفسد اللّفظ. وكذلك قولي:
فجئت وفد نضَّت لنومٍ ثيابها
منهم من يشدِّد الضاد، ومنهم من ينشد بالتخفيف، والوجهان من قولك: نضوت الثّوب. إلاّ أنك إذا شد؟؟ ّ؟ دت الضاد، أشّبه الفعل من النّضيض، يقال: هذه نضيضةٌ من المطر أي قليلٌ، والتخفيف أحبُّ إليَّ، وإنما حملهم على التشديد كراهة الزَّحاف، وليس عندنا بمكروه.
فيقول: لا برح منطقياً بالحكم: فأخبرني عن كلمتك الصاديِّة والضاديّة والنُّونيّة التي أوَّلها:
لمن طللٌ أبصرته فشجاني ... كخطِّ زبورٍ في عسيب يمان
لقد جئت فيها بأشياء ينكرها السَّمع، كقولك:
فإن أمس مكروباً فيا ربَّ غارة ... شهدت على أقبِّ رخو اللَّبان
وكذلك قولك في الكلمة الصَّادية:
على نقنقٍ هيقٍ له ولعرسه
بمنقطع الوعساء بيضٌ رصيص وقولك:
فأسقي به أختي ضعيفة، إذ نأت،
وإذ بعد المزداد غير القريض في أشباه لذلك، هل كانت غرائزكم لا تحسُّ بهذه الزِّيادة؟ أم كنتم مطبوعين على إتيان مغامض الكلام وأنتم عالمون بما يقع فيه؟ كما أنَّه لا ريب أنَّ زهيراً كان يعرف مكان الزِّحاف في قوله:
يطلب شأو امرأين قدِّما حسباً ... نالا الملوك، وبذَّا هذه السُّوقا
فإنَّ الغرائز تحسُّ بهذه المواضع، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فيقول امرؤ القيس: أدركنا الأوّلين من العرب لا يحفلون بمجيء ذلك، ولا أدري ما شجن عنه، فأمَّا أنا وطبقتي فكنَّا نمرُّ في البيت حتى نأتي إلى آخره، فإذا فني أو قارب تبيَّن أمره للسامع.
فيقول، ثبَّت الله تعالى الإحسان عليه: أخبرني عن قولك:
ألا ربَّ يومٍ منهنَّ صالحٍ ... ولا سيما يومٌ بدارة جلجل
أتنشده: لك منهنَّ صالحٍ فتزاحف الكفِّ؟ أم تنشده على الرواية الأخرى؟
فأمَّا يومٌ، فيجوز فيه النّصب والخفض والرفع فأما النصب فعلى ما يجب للمفعول من الظُّروف، والعامل في الظَّرف هاهنا فعلٌ مضمرٌ، وأمَّا الرفع فعلى أن تجعل ما كافَّةً، وما الكافَّة عند بعض البصريِّين نكرةٌ، وإذا كان الأمر كذلك ف هو بعدها مضمرةٌ، وإذا خفض يومٌ، ف ما من الزَّيادات. ويشدَّد سيَّ ويخفَّف: فأمَّا التشديد فهو اللغة العالية، وبعض النَّاس يخفَّف، ويقال: إنَّ الفرزدق مرَّ وهو سكران على كلابٍ مجتمعةٍ. فسلَّم عليها فلمّا لم يسمع لجواب أنشأ يقول:
فما ردَّ السّلام شيوخ قومٍ ... مررت بهم على سكك البريد
ولا سيَّما الذي كانت عليه ... قطيفه أرجوانٍ في القعود
فيقول امرؤ القيس: أمَّا أنا فما قلت في الجاهليّة إلاَّ بزحافٍ: لك منهَّن صالحٍ. وأمَّا المعلِّمون في الإسلام فغيَّروه على حسب ما يريدون، ولا بأس بالوجه الذي اختاروه. والوجوه في يوم متقاربةٌ، وسيَّ تشديدها أحسن وأعرف. فيقول: أجل، إذا خففِّت صارت على حرفين أحدهما حرف علِّةٍ.
ويقول: أخبرني عن التَّسميط المنسوب إليك، أصحيحٌ هو عنك؟ وينشده الذي يرويه بعض النَّاس:
يا صحبنا عرَّجوا ... تقف بكم أسج
مهريَّةٌ دلج، ... في سيرها معج
طالت بها الرِّحل
فعرَّجوا كلُّهم ... والهمُّ يشغلهم
والعيس تحملهم ... ليست تعلِّلهم
وعاجت الرٌّمل
يا قوم إنَّ الهوى ... إذا أصاب الفتى
في القلب ثمَّ ارتقى ... فهدَّ بعض القوى
فقد هوى الرَّجل فيقول: لا والله ما سمعت هذا قطُّ، وإنّه لقريُّ لم أسلكه، وإنَّ الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إليَّ! أبعد كلمتي التي أوَّلها:
ألا أنعم صباحاً أيُّها الطَّلل البالي،
وهل ينعمن من كان في العصر الخالي؟
خليليَّ مرَّا بي على أمّ جندب ... لأقضي حاجات الفؤاد المعذَّب
يقال لي مثل ذلك؟ والرَّجز من أضعف الشَّعر، وهذا الوزن من أضعف الرَّجز.
فيعجب، ملأ الله فؤاده بالسُّرور، لما سمعه من امرىء القيس ويقول:: كيف ينشد:
جالت لتصرعني فقلت لها: قرى
إنَّي امرؤ صرعى عليك حرام أتقول: حرام، فتقوي؟ أم تقول: حرام، فتخرجه مخرج حذام وقطام؟ وقد كان بعض علماء الدَّولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك. فيقول امرؤ القيس: لا نكرة عندنا في الإقواء، أما سمعت البيت في هذه القصيدة:
فكأنَّ بدراً واصلٌ بكتفةٍ، ... وكأنَّما من عاقلٍ إرمام
فيقول: لقد صدقت يا أبا هند، لأنَّ إرماماً هاهنا، ليس واقعاً موقع الصِّفة فيحمل على المجاورة، لأنَّه محمول على كأنَّما، وإضافته إلى ياء النَّفس تضعِّف الغرض. وقد ذهب بعض الناس إلى الإضافة في قول الفرزدق:
فما تدري إذا قعدت عليه ... أسعد الله أكثر أم جذام
فقالوا: أضاف كما قال جريرٌ:
تكلم قريشي والأنصار أنصاري
وكذلك قوله:
وإذا غضبت رمت ورائي مازنٌ ... أولاد جندلتي كخير الجندل
وبعضهم يروي: أولاد جندلة كخير الجندل وجندلة هذه هي أمُّ مازن بن مالك بن عمرو بن تميم وهي من نساء قريش.
وإنَّا لنروي لك بيتاً ما هو في كلَّ الرِّوايات، وأظنُّه مصنوعاً لأنَّ فيه ما لم تجر عادتك بمثله، وهو قولك:
وعمرو بن درماء الهمام إذا غدا ... بصارمه، يمشي كمشية قسورا
فيقول: أبعد الله الآخر، لقد اخترص، فما اترَّص! وإنَّ نسبة مثل هذا إليَّ لأعدُّه إحدى الوصمات، فإن كان من فعله جاهليّاً، فهو من الذين وجدوا في النَّار صليّاً، وإن كان من أهل الإسلام، فقد خبط في ظلام.
وإنَّما أنكر حذف الهاء من قسورة، لأنَّه ليس بموضع الحذف، وقلَّ ما يصاب في أشعار العرب مثل ذلك. فأمَّا قول القائل:
إنَّ ابن حارث إن أشتق لرؤيته ... أو أمتدحه، فإنّ النَّاس قد علموا
فليس من هذا النَّحو، إذ كان التّغيير إلى الأسماء الموضوعة أسرع منه إلى الأسماء التي هي نكراتٌ، إذ كانت النَّكرة أصلاً في الباب.
















مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید