المنشورات

عنترة العبسيُّ

وينظر فإذا عنترة العبسيُّ متلدَّدٌ في السَّعير، فيقول: ما لك يا أخا عبسٍ؟ كأنَّك لم تنطق بقولك:
ولقد شربت من المدامة بعدما
ركد الهواجر، بالمشوف المعلم
بزجاجةٍصفراء ذات أسرَّةٍ
قرنت بأزهر في الشَّمال مفدَّم وإنِّي إذا ذكرت قولك: هل غادر الشُّعراء من متردَّم لأقول: إنَّما قيل ذلك وديوان الشِّعر قليلٌ محفوظٌ، فأمَّا الآن وقد كثرت على الصائد ضباب، وعرفت مكان الجهل الرِّباب. ولو سمعت ما قيل بعد مبعث النّبي، صلى الله عليه وسلّم، لعتبت نفسك على ما قلت، وعلمت أنّ الأمر كما قال حبيب بن أوسٍ:
فلو كان يفنى الشِّعر أفناه ما قرت
حياضك منه في العصور الذّواهب
ولكنَّه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه، أعقبت بسحائب فيقول: وما حبيبكم هذا؟ فيقول: شاعرٌ ظهر في الإسلام. وينشده شيئاً من نظمه: فيقول: أمّاالأصل فعربيٌّ، وأمّا الفرع فنطق به غبيٌّ، وليس هذا المذهب علىما تعرف قبائل العرب. فيقول، وهو ضاحكٌ مستبشرٌ: إنَّما ينكر عليه المستعار، وقد جاءت العارية في أشعار كثيرٍ من المتقدِّمين، إلا إنها لاتجتمع كاجتماعها فيما نظمه حبيب بن أوسٍ.
فما أردت بالمشوف المعلم؟ الدِّينار أم الرِّداء؟ فيقول: أيُّ الوجهين أردت، فهو حسنٌ ولا ينتقض.
فيقول، جعل الله سمعه مستودعاً كل الصالحات: لقد شقَّ عليَّ دخول مثلك إلى الجحيم، وكأنَّ أذني مصغيةٌ إلى قينات الفسطاط وهي تغرِّد بقولك:
أمن سميَّة دمع العين تذريف؟ ... لو أنَّ ذا منك قبل اليوم معروف
تجلِّلتني إذ أهوى العصا قبلي، ... كأنَّها رشأٌ في البيت مطروف
العبد عبدكم، والمال مالكم ... فهل عذابك عنِّي اليوم مصروف
وإنِّي لأتمثِّل بقولك:
ولقد نزلت، فلا تظنِّي غيره، ... منِّي بمنزلة المحبِّ المكرّم
ولقد وفِّقت في قولك: المحبِّ، لأنَّك جئت باللَّفظ على ما يجب في أحببت، وعامّة الشُّعراء يقولون: أحببت، فإذا صاروا إلى المفعول قالوا: محبوبٌ. قال زهير بن مسعودٍ الضَّبِّيُّ:
واضحة الغرَّة محبوبةٌ ... والفرس الصّالح محبوب
وقال بعض العلماء: لم يسمع بمحبٍّ إلا في بيت عنترة.
وإنَّ الذي قال: أحببت، ليجب عليه أن يقول: محبُّ، إلا أنَّ العرب اختارت: أحبَّ في الفعل، وقالت في المفعول: محبوب. وكان سيبويه ينشد هذا البيت بكسر الهمزة:
إحبُّ لحبِّها السودان حتى ... إحبُّ لحبِّها سود الكلاب
فهذا على رأي من قال: مغيرة، فكسر الميم على معنى الإتباع، وليس هو عنده على: حببت أحبُّ.
وقد جاء حببت، قال الشاعر:
ووالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيدٍ ومرشق
ويقال: إنَّ أبا رجاءٍ العطارديَّ قرأ: فاتَّبعوني يحببكم الله بفتح الياء.
والباب فيما كان مضاعفاً متعدِّياً أن يجيء بالضّمِّ، كقولك: عددت أعدُّ، ورددت أردُّ، وقد جاءت أشياء نوادر كقولهم: شددت الحبل أشد؟ وأشدُّ، ونممت الحديث أنمّ وأنمُّ، وعللت القول أعلُّ وأعلُّ.
وإذا كان غير متعدٍّ فالباب الكسر، كقولهم: حلَّ عليه الدَّين يحلُّ، وجلَّ الأمر يجلُّ.
والضمُّ في غير المتعديّ أكثر من الكسر فيما كان متعدّياً، كقولهم: شَحَّ يَشُحُّ وَيشِحُّ، وشبّ الفرس يَشُبُّ ويَشِبُّ، وصحّ الأمر يَصِحُّ ويَصُحُّ، وفحتِ الحيَّة تَفِحُّ وتفُحُّ، وجّمُّ الماء يَجِمُّ ويَجُمُّ، وجدَّ في الأمر يّجِدُّ ويَجُدُّ في حروفٍ كثيرةٍ.
وينظر فإذا علقمة بن عبيدة فيقول: أعزز عليَّ بمكانك! ما أغنى عنك سمطا لؤلؤك. يعني قصيدته التي على الباء: طحا بك قلبٌ في الحسان طروب والتي على الميم: هل ما علمت وما استودعت مكتوم فبالذي يقدر على تخليصك، ما أردت بقولك:
فلا تعدلي بيني وبيين مغمَّرٍ ... سقتك روايا المزن حين تصوب
وما القلب، أم ماذكرها ربعيَّة ... يخطُّ لها من ثرمداء قليب
أعنيت بالقليب هذا الذي يورد، أم القبر؟ ولكلٍ وجهٌ حسنٌ.
فيقول علقمة: إنَّك لتستضحك عابساً، وتريد أن تجني الثَّمر يابساً، فعليك شغلك أيُّها السَّليم!
فيقول: لو شفعت لأحدٍ أبياتٌ صادقةٌ ليس فيها ذكر الله، سبحانه، لشفعت لك أبياتك في وصف النَّساء، أعني قولك:
فإن تسألوني بالنسِّاء فإننِّي ... بصيرٌ بأدواء النِّساء طبيب
إذا شاب رأس المرء، أو قلّ ماله، ... فليس له في ودِّهنَّ نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه، ... وشرخ الشِّباب عندهنَّ عجيب
ولو صادفت منك راحةً لسألتك عن قولك:
وفي كلِّ حيٍّ قد خبطَّ بنعمةٍ ... فحُقّ لشاشٍ من نداك ذنوب
أهكذ نطقت بها طاءً مشدّدةً، أم قالها كذلك عربيٌّ سواك؟ فقد يجوز أن يقول الشاعر الكلمة، فيغيِّرها عن تلك الحال الرواة.
وإنَّ في نفسي لحاجةً من قولك:
كأس عزيزٌ من الأعناب عتَّقها ... لبعض أربابها حانيَّةٌ حوم
فقد اختلف النَّاس في قولك حوم، فقيل: أراد حُمَّاً، أي سوداً، فأبدل من إحدى الميمين واواً. وقيل: أراد حوماً أي كثيراً فضمَّ الحاء للضَّرورة، وقيل: حومٌ، يحام بها على الشِّرب أي يطاف.
وكذلك قولك:
يهدي بها أكلف الخدَّين مختبرٌ ... من الجمال كثيرٌ اللّحم عيثوم
فروي: يهدي، بالدَّال غير معجمةٍ، ويهذي بذالٍ معجمةٍ.
وقيل: مختبرٌ، من اختبار الحوائل من اللواقح، وقيل: هو من الخبير أي الزُّبد، وقيل: الخبير اللحم، وقيل: هو الوبر.















مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید