المنشورات

الندامى

ما أرجِّي بالعيش بعد ندامى ... كلُّهم قد سقوا بكأس حلاق
فيقال: إنّك لتعرِّف صاحبك بأمرٍ لا معرفة عندنا به، ما النّحويّون؟ وما الاستشهاد؟ وما هذا الهذيان؟ نحن خزنة النَّار، فبيِّن غرضك تُجب إليه.
فيقول: أريد المعروف بمهلهلٍ التَّغلبيِّ، أخي كُليب وائلٍ الذي كان يضرب به المثل.
فيقال: ها هو ذا يسمع حوارك، فقل ماتشاء.
فيقول: يا عديَّ بن ربيعة، أعزز عليَّ بولوجك هذا المؤلج! لو لم آسف عليك إلا لأجل قصيدتك التي أوَّلها:
أليلتنا بذي حسمٍ أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري
لكانت جديرةً أن تطيل الأسف عليك، وقد كنت إذا أنشدت أبياتك في ابنتك المزوَّجة في جنب تغرورق من الحزن عيناي، فأخبرني لِمَ سُمَّيت مهلهلاً؟ فقد قيل: إنّك سُمَّيت بذلك لأنَّك أوَّل من هلهل الشِّعر أيّ رقَّقه.
فيقول: إنَّ الكذب لكثيرٌ، وإنَّما كان لي أخٌ يقال له امرؤ القيس فأغار علينا زهيربن جنابٍ الكلبيُّ، فتبعه أخي في زرافةٍ من قومه، فقال في ذلك:
لما توقَّل في الكراع هجينهم ... هلهلت أثار مالكاً أو صنبلا
وكأنَّه بازٌ علته كبرةٌ ... يهدي بشكَّته الرَّعيل الأوَّلا
هلهلت: أي قاربت، ويقال: توقَّفت، يعني بالهجين زهير بن جنابٍ. فسمَّي مهلهلاً فلمَّاهلك شبَّهت به فقيل لي: مهلهل. فيقول: الآن شفيت صدري بحقيقة اليقين.
فأخبرني عن هذا البيت الذي يروى لك:
أرعدوا ساعة الهياج وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا
فإنَّ الأصمعيَّ كان ينكره ويقول: إنّه مولَّدٌ، وكان أبو زيدٍ يستشهد به ويثبته.
فيقول: طال الأبد على لبدٍ! لقد نسيت ما قلت في الدار الفانية، فما الذي أنكر منه؟ فيقول: زعم الأصمعيُّ أنَّه لا يقال أرعد وأبرق في الوعيد ولا في السّحاب.
فيقول: إنَّ ذلك لخطأٌ من القول، وإنَّ هذا البيت لم يقله إلاّ رجلٌ من جذم الفصاحة، إما أنا وإمَّا سواي، فخذ به وأعرض عن قول السُّفهاء.
ويسأل عن المرقِّش الأكبر، فإذا هو به في أطباق العذاب، فيقول: خفَّف الله عنك أيُّها الشَّاب المغتصب، فلم أزل في الدار العاجلة حزيناً لما أصابك به الرّجل الغفُليُّ، أحد بني غفيلة ابن قاسطٍ، فعليه بهلة الله! وإنّ قوماً من أهل الإسلام كانوا يستزرون بقصيدتك الميميَّة التي أوّلها:
هل بالدّيار أن تجيب صمم ... لو كان حيّاً ناطقاً كلَّم
وإنّها عندي لمن المفردات، وكان يعض الأدباء يرى أنَّها والميميَّة التي قالها المرقَّش الأصغر ناقصتان عن القصائد المُفضَّليَّات، ولقد وهم صاحب هذه المقالة.
وبعض النّاس يروي هذا الشّعر لك:
تخيّرت من نعمان عود أراكةٍ،
لهندٍ، ولكن من يبلغه هندا؟
خليلي َّجوراً بارك الله فيكما،
وإن لم تكن هندٌ لأرضكما قصدا
وقولا لها: ليس الضّلال أجارنا
ولكننَّا جُرنا لنلقاكم عمدا ولم أجدها في ديوانك، فهل ما حُكي صحيحٌ عنك؟ فيقول: لقد قلت أشياء كثيرةً، منها ما نُقل إليكم ومنها ما لم يُنقل، وقد يجوز أن أكون قلت هذه الأبيات ولكني سرفتها لطول الأبد، ولعلَّك تنكر أنّها في هندٍ، وأنَّ صاحبتي أسماء، فلا تنفر من ذلك، فقد ينتقل المُشبِّب من الاسم إلى الاسم، ويكون في بعض عُمره مُستهتراً بشخصٍ من النّاس، ثمّ ينصرف إلى شخصٍ آخر، ألا تسمع إلى قولي:
سفهٌ تذكُّره خويلة بعدما ... حالت ذُرا نجران دون لقائها
وينعطف إلى المُرقِّش الأصغر فيسأله عن شأنه مع بنت المنذر وبنت عجلان فيجده غير خبيرٍ، قد نسي لترادف الأحقاب فيقول: ألا تذكر ما صنع بك جنابٌ الذي تقول فيه:
فآلى جنابٌ حلفةً فأطعته، ... فنفسك ولِّ اللَّوم إن كنت لائما
فيقول: وما صنع جناب؟ لقد لقيت الأقورين، وسقيت الأمرَّين، وكيف لي بعذاب الدَّار العاجلة!.
فإذا لم يجد عنده طائلاً تركه، وسأل عن الشَّنفرى الأزديِّ فألفاه قليل التِّشكِّي والتَّألّم لما هو فيه، فيقول: إنَّي لا أراك قلقاً مثل قلق أصحابك. فيقول: أجل، إنَّي قلت بيتاً في الدّار الخادعة فأنا أتأدَّب به حيريَّ الدهر، وذلك قولي:
غوى فغوت، ثم ارعوى بعد وارعوت
وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل وإذا هو قرينٌ مع تأبَّط شرّاً، كما كان في الدَّار الغرَّارة.
فيقول، أسنى الله حظَّه من المغفرة، لتأبّط شرّاً: أحقُّ ما روي عنك من نكاح الغيلان؟ فيقول: لقد كنَّا في الجاهليَّة نتقوَّل ونتخرَّض، فما جاءك عنَّا ممّا ينكره المعقول فإنّه من الأكاذيب، والزَّمن كلَّه على سجيَّةٍ واحدةٍ، فالذي شاهده معدُّ بن عدنان كالذي شاهد نضاضة ولد آدم. والنُّضاضة آخر ولد الرَّجل.
فيقول، أجزل الله عطاءه من الغفران: نّقلت إلينا أبياتٌ تنُسب إليك:
أنا الذي نكح الغيلان في بلدٍ ... ما طلَّ فيه سماكيُّ ولا جاد
في حيث لا يعمت الغادي عمايته ... ولا الظَّليم به يبغي تهبّادا
وقد لهوت بمصقولٍ عوارضها ... بكرٍ تُنازعني كأساً وعنقادا
ثمّ انقضى عصرها عنِّي وأعقبه ... عصر المشيب، فقل في صالح: بادا
فاستدللت على أنّها لك لمَّا قلت: تهبّادا، مصدر تهبَّد الظليم إذا أكل الهبيد، فقلت: هذا مثل قوله في القافيَّة:
طيف ابنة الحرِّ إذ كُنَّا نواصلها
ثمّ اجتننت بها بعد التِّفرّاق مصدر تفرَّقوا تفرّاقاً، وهذا مطَّردٌ في تفعَّل، وإن كان قليلاً في الشعر، كما قال أبو زبيدٍ:
فثار الزَّاجرون فزاد منهم ... تقرّاباً، وصادفه ضبيس
فلا يجيبه تأبَّط شراً بطائلٍ.
فإذا رأى قلة الفوائد لديهم، تركهم في الشَّقاء السّرمد، وعمد لمحلِّه في الجنان، فيلقى آدم، عليه السّلام، في الطّريق فيقول: يا أبانا، صلَّى الله عليك، قد روي لنا عنك شعرٌ: منه قولك:
نحن بنو الأرض وسكَّانها ... منها خُلقنا، وإليها نعود
والسَّعد لا يبقى لأصحابه ... والنَّحس تَّمحوه ليالي السُّعود
فيقول: إنَّ هذا القول حقُّ، وما نطقه إلاّ بعض الحكماء، ولكنِّي لم أسمع به حتى السّاعة.
فيقول: وفرّ الله قسمه في الثَّواب: فلعلَّك يا أبانا قُلته ثمَّ نسيت، فقد علمت أنَّ النِّسيان متسرّعٌ إليك، وحسبك شهيداً على ذلك الآية المتلوَّة في فرقان محمَّدٍ، صلّى الله عليه وسلم: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً " وقد زعم بعض العلماء أنّك إنّما سمِّيت إنساناً لنسيانك، واحتجَّ على ذلك بقولهم في التَّصغير: أنيسيان، وفي الجمع: أناسيّ، وقد روي أنَّ الإنسان من النَّسيان عن ابن عبَّاس، وقال الطائيّ:
لا تنسين تلك العهود وإنَّما ... سُميِّيت إنساناً لأنّك ناس
وقرأ بعضهم: " ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض النَّاس بكس السَّين، يريد النّاسي، فحذف الياء، كما حذفت في قوله: سواء العاكف فيه والباد. فأمّا البصريُّون فيعتقدون أنَّ الإنسان من الأنس، وأنَّ قولهم في التَّصغير: أنيسيان، شاذ، وقولهم في الجمع: أناسيُّ، أصله أناسين، فأبدلت الياء من النون. والقول الأوَّل أحسن.















مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید