المنشورات
العجّاج
فإذا طالت المخاطبة بينه وبين رؤبة، سمع العجّاج فجاء يسأل المحاجزة.
ويذكر، أذكره الله بالصّالحات، ما كان يلحق أخا النِّدام، من فتور في الجسد من المدام، فيختار أن يعرض له ذلك من غير أن ينزف له لبُّ، ولا يتغير عليه خبَّ فإذا هو يخال في العظام النّاعمة دبيب نملٍ، أسرى في المقمرة على رملٍ، فيترنَّم بقول إياس بن الأرتِّ:
أعاذل لو شربت الخمر حتى ... يظلَّ لكلِّ أنملةٍ دبيب
إذاً لعذرتني وعلمت أنِّي ... لما أتلفت من مالي مُصيب
ويتَّكىء على مفرشٍ من السُّندس، ويأمر الحور العين أن يحملن ذلك المفرش فيضعنه على سريرٍ من سرر أهل الجنَّة، وإنَّما هو زبرجدٌ أو عسجدٌ، ويكوِّن البارىء فيه حلقاً من الذَّهب تطيف به من كلِّ الأشرار حتى يأخذ كلُّ واحدٍ م الغلمان، وكلُّ واحدةٍ من الجواري المشبَّهة بالجمان، واحدةً من تلك الحلق، فيُحل على تلك الحال إلى محلِّه المُشيَّد بدار الخلود، فكلَّما مرَّ بشجرةٍ نضخته أغصانها بماء الورد قد خلط بماء الكافور، وبمسكٍ ما جني من دماء الفور، بل هو بتقدير الله الكريم.
وتناديه الثَّمرات من كلِّ أوبٍ هو مستلقٍ على الظَّهر: هل لك يا أبا الحسن، هل لك؟ فإذا أراد عنقوداً من العنب أو غيره انقضب من الشَّجرة بمشيئة الله، وحملته القدرة إلى فيه، وأهل الجنَّة يلقونه بأصناف التَّحيَّة وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين: لا يزال كذلك أبداً سرمداً، ناعماً في الوقت المتطاول منعمَّاً، لا تجد الغير فيه مزعماً. وقد أطلت في هذا الفصل، ونعود الآن إلى الإجابة عن الرَّسالة: فهمت قوله: جعلني الله فداءه، لا يذهب به إلى النِّفاق، وبعد ابن آدم من الوفاق، وهذه غريزةٌ خصَّ بها الشيخ دون غيره، وتعايش العالم بخداع، وأضحوا من الكذب في إبداع. لو قالت شيرين الملكة لكسرى: جعلني الله فداءك في إقامة أو سرى، لخالبته في ذلك ونافقته، وإن راقته بالعطل ووافقته، على أنَّه أخذها من حالٍ دنيَّة، فجعلها في النُّعمى السَّنَّية، وعتبه في ذلك الاحبَّاء، وجرت لهم في ذلك قصصٌ وأنباءٌ، وقيل له، فيما ذكر، والله معالم بمن جدب أو شكر: كيف تطيب نفس الملك لهذه المومس، وهي الوالجة في المغمِّس؟ فضرب لهم المثل بالقدح، وإذا حظيت الغانية فليست بالمفتقرة إلى الصَّدح، جعل في الإناء الشَّعر والد؟ َّم، وقال للحاضر ولا ندم: أتجيب نفسك لشرب ما فيه؟ وإنَّما يجنح إلى تلافيه. إنَّها لا تطيب، وهي بالأنجاس قطيب.
فأراق ذلك الشيء وغسله، وهذَّب وعاءه ثمَّ عسله، وجعل فيه من بعد مداما، وعرضها على النَّدامى، فكلّهم بهش أن يشرب، ومن يعاف العاتقة والغرب؟ فقال: هذا مثل شيرين، فلا تكونوا في السَّفه مسيرين.
كم من شبل نافق أسدا، وأضمرا له غلاًّ وحسداً؟ ولبوءةٍ تداجي هرماساً، تنبذ إليه المقة وتبغض له لماساً؟ وضيغمٍ نقم على فرهود، وودَّ لو دفنه بالوهود؟ والفرهود ولد الأسد بلغة أسد شنوءة، وهو، آنس الله الإفليم بقربه، أجلُّ من أن يشرح له مثل ذلك، وإنَّما أفرق من وقوع هذه الرِّسالة في يد غلامٍ مترعرعٍ، ليس إلى الفهم بمتسرِّع، فتستعجم عليه اللَّفظة، فيظلُّ معها في مثل القيد، لا يقدر على العجل ولا الرُّويد.
وكم خالبت الذِّئاب السَّلق، وفي الضّمائر تُكنُّ الفلق أي الدَّواهي، ومنه قول خلفٍ.
موت الإمام فلقةٌ من الفلق والسَّلق، جمع سلقةٍ: وهي أنثى الذئب.
وملكٍ سانى ملكةً، ثمَّ صنعت له مهلكةً؟؟! يقول القائل: بأبي أنت، جاد عملك وأتقنت! ولو قدر لبتَّ الودج، وإنَّما جامل وسدج.
ولعل بعض العتارف يلفظ إلى البائضة حبَّة البرِّ، ويأنس بها في حرٍّ وقرّ، وفي فؤاده من الضِّغن أعاجيب، وتكثر وتقلُّ المناجيب، والمناجيب ها هنا تحتمل أمرين: أحدهما من النَّجابة، والآخر من قولهم: مناجيب أي ضعافٌ، من قول الهذليّ:
بعثته في سواد اللَّيل يرقبني ... إذ آثر النَّوم والدِّفء المناجيب
والمعنى: أنَّ المناجيب من النَّجابة تقلُّ، والمناجيب من الوهن تكثر.
ولعلّ ذلك الصّاقع يرقب لأمّ الكيكة حماماً، ولا يرقب لها ذماماً. يقول في النّفس المتحدِّثة: ليت الذِّابح بكرَّ على المنقضة، فإنها عين المبغضة. أو يقول: لو أنِّي جعلت في قدرٍ، أو في بعض الوطس فلحقت بالهدر، لتزوَّجت هذه من الدِّيكة شابَّاً مقتبلاً، يحسن لها حبَّاً قبلاً.
وأنا أذكره بالكلمة العارضة، إذ كان قد بدأ بالإيناس، وترك مكايد النّاس: ألا يعجب من قول العرب: فداءٍ لك، بالكسر والتنوين كما قال الرّاجز:
ويهاً فداءٍ لك يا فضاله ... أجرَّه الرُّمح، ولا تباله
ويروى تهاله.
وذكر أحمد بن عبيد بن ناصحٍ، وهو المعروف بأبي عصيدة، أنَّ قولهم فداءٍ لك بالكسر، إذا كان لها مرافع لم يجز فيها الكسر والتَّنوين. ولا ريب أنَّه يحكي ذلك عن العلماء الكوفييِّن. وعينَّنه في قول النّابغة:
مهِّلاً فداءٍ لك الأقوام كلّهم ... وما أثمِّر من مالٍ ومن ولد
فأمّا البصريّون فقد رووا في هذا البيت: فداءٌ لك.
وكيف يقول الخليل المخلص، وهو عن الهجران متقلِّص: إنَّ حنينه حنين واله من النُّوق، وهي الذّاهلة إن حمل عليها بعض الوسوق، وإنَّما تسجع ثلاثاً أو أربعاً، ثمَّ يكون سلوُّها متبعاً؟ فأما الحمامة الهاتفة فقد رزقها الباريء صيتاً شائعاً، وظلَّ وصفها بالأسف ذائعاً، تنهض إلى التقاط حبٍّ، وتعود إلى جوز لها ذات أب، فإن هي صادفته أكيل بازٍ أو سوذانق، ليس من أبصر اثره بالآنق غدا به ظفر شاهين، وهي، البائسة، من اللاَّهين، فما هي إلا مثل الحيوان، تملُّ حالها في أقصر أوان.
وقد زعم زاعمٌ، لا يصدَّق، أنَّ الحمائم في هذا العصر، يبكن مقعداً هلك في عهد نوحٍ، أبرح له البارح أم رمي بالسُّنوح، وإنَّ دوامها على ذلك لدليل الوفاء، وما العوض عن خليل الصّفاء؟ لا عوض ولا نائب إلاَّ فيه، وكيف يعتب الزَّمن على تجافيه؟ وإنَّما حشي بشرٍّ وغدر، وكتب له العزُّ في القدر.
وأمّا الظَّبية فإنّها لا توصف بحنين، ولكن تبتقل بلبِّ منين. ومن لها باليانع من الأراك، ولا تقول لفارس الخيل الشَّازبة: دراك ومن كان وجده يعدل عن الخلد، فإنّه إذا جنب إلى الولد، فسوف تذره المدد ناسياً، كأنَّه ما جزع آسياً ...
وما أقلَّ صدق الألاّف، ولو بيعوا من الذَّهب، لا الورق، بآلافٍ:
وليس خليلي بالملول، ولا الذّي ... إذا غبت عنه، باعني بخليل
وأحسب كثيِّراً تفوَّه بهذه المقالة على غرَّة، وما عرف مكان الشِّرِّة، فكيف يقدر على إخاء الملك، أم كيف يرتفع إلى الفلك؟ وأمّا ما ذكره من حالى، غطِّي شخصه أن يلحظ بنواظر الغير، ومتِّع من مالٍ بحير أي كثير، قال الرَّاجز:
يا ربنَّا من سرَّه أن يكبرا ... فسق له ياربِّ مالاً حيرا
فطالما أعطي الوثن سعوداً، فصار حضوره للجهلة موعوداً! فإن سررت بالباطل، فشهرت باتِّخاذ النياطل، وإنَّ الصابر مأجورٌ محمود، ولا ريب أن سيقدر لمن ظعن شربٌ مثمود. وأحلف كيمين امرىء القيس لمَّا رغب في مقامه عند الموموقة، ولم يفرق من الرامقة ولا المرموقة، فقال:
فقلت: يمين الله، أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
والأخرى التي أقسم بها زهيرٌ، إذ عصفت بالحرب القائمة هير، أعني قوله:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجالٌ بنوه، من قريشٍ وجرهم
يميناً لنعم السِّيدِّان وجدتمأ
على كلِّ حالٍ من سحيلٍ ومبرم وبالحذَّاء التي نطق بها ساعدة، والمهجة إلى ملكها صاعدةٌ، فقال:
حلف أمرىٍء برٍّ سرفت يمينه
ولكلِّ من ساس الأمور مجرّب وأولي مع ذلك أليَّة الفرزدق لمَّا رهب وقوع انتقام، فاغتنم ما بين الكعبة والمقام، ووصف ما صنع فقال:
ألم ترني عاهدت ربِّي وإننّي ... لبين رتاجٍ قائماً ومقام
على حلفةٍ، لا أشتم الدّهر مسلماً ... ولا خارجاً من فيِّ زور كلام
إنِّي لمكذوب عليه كما كذبت العرب على الغول، وإنَّها عمَّا يؤثر لفي شغول، وكما تقوَّلت الأمثال السائرة على الضَّبِّ وله بالكلدة إرباب الصَّبِّ. وكما تكلَّمت على لسان الضِّبع وهي خرساء، ما أطلق لسانها الوضح ولا المساء.
يظنُّ أنَّني من أهل العلم، وما أنا له بالصاحب ولا الخلم.
وتلك لعمري بليَّةٌ، تفتقد معها الجليِّة. والعلوم تفتقر إلى مراسٍ، ودارسٍ للكتب أخي دراس.
ويقال إننَّي من أهل الدِّين، ولو ظهر ما وراء السَّدين، ما اقتنع لي الواصف بسبٍّ، وودَّ أن يسقيني جوزلاً بشبّ، وكيف يدّعى للعلج الوحشيّ، وإنَّما أبد في الرّوض الحبشي، أن تغريده في السَّحر أشعار موزونةٌ، تأذن لنظيرها المحزونة؟ وهل يصوَّر لعاقلٍ لبيب، أنَّ الغراب النّاعب صدح بتشبيب، وأنَّ العصافير الطّائرة بأجنحةٍ، كعصافير المنذر الكائنة للتَّمنحة؟ وكيف يظنُّ الظانُّ أن للطائر أساجيع حمامة، وإنَّه لأخرس مع الدَّمامة؟ فبعد من زعم أنَّ الحجر متكلِّمٌ، وأنَّه عند الضَّرب متألِّم. ومن ألتمس من اللُّغام كسوةً، فإنَّه لا يجد إسوةً.
ولو أنِّى لا أشعر بما يقال فيَّ، لأرحت من إنكاري وتلافيّ، وكنت كالوثن: سواءٌ عليه إن وقِّر من الوقار، وإن أوقر من الأوقار وكالأرض السَّبخة ما تحفل أن قيل: هي مريعة، أو قيل لها: بئست الزَّريعة؛ وكالفرير المعتبط: ما يأبه لقول الآكل: إنّه لساحٌّ ولا إذا قصب: إنَّه بالدِّكة شاحٌ. والله المستنصر على الإلاقيّ، لم توزن الراكدة بالأواقيّ والإلاقيُّ منسوبٌ إلى الإلاق وهو البرق الكاذب وكيف أغتبط إذا تخرِّص عليَّ،وعزيت المعرفة إليَّ؟ ولست آمناً في العاقبة، فضيحةً غير مصاقبة، ومثلي، إن جذلت بذلك، مثل من اتُّهم بمالٍ، فاعتقد أنَّ ما ذاع من الخبر يأتيه بجمال، فسرّه قول الجهلة: إنّه لحلف اليسار. فطلب منه بعض السَّلاطين أن يحمل إليه جملةً وافرةً، فصادف كذوبةً زافرة، وضربة كي يقرَّ، وقتل في العقوبة ولم يعظ البرّ.
وقد شهد الله أنِّي أجذل بمن عابني، لأنّه صدق فيما رابني، وأهتمُّ لثناءٍ مكذوب، يتركني كالطَّريدة العذوب، ولو نطحت بقرني الجرادة، لامتنعت من كلِّ إرادة، فأمّا روق الوعل، فأعوزه عندي نطيحٌ، لأنِّي بروق الظّبي أطيح. فغفر الله لمن ظنَّ حسناً بالمسيء، وجعله حجّة في النَّسيء. ولولا كراهتي حضوراً بين النّاس، وإيثاري أن أموت ميتة علهبٍ في كناس، فاجتمع معي أولئك الخائلون، لصحَّ أنَّهم عن الرُّشِد حائلون، وأتار لهم الحقُّ الطّامس وقبض على القتاد اللاّمس.
وأمّا وروده حلب، حرسها الله، فلو كانت تعقل لفرحت به فرح الشّمطاء المنهبلة، ليست بالآبلة ولا المؤتبلة، شحط سليلها الواحد، وما هو لحقِّها جاحدٌ. وقدم بعد أعوامٍ، فنقعت به فرط أوامٍ، وكانت معه كالخنساء ذات البرغز، رتعت به في الأصيل، وليس هو لحشفٍ بوصيل، فلمّا رأت المكان آمناً، ولم تخش للسِّراح الخمع كامناً، انبسطت في المراد الواسع وخلَّفته، يحاول أنفاً تكل؟ فته، لتجرَّ لذلك الولد ما في الأخلاف، ولا تلافي بعيد التّلاف، فعادت المسكينة فلم تصبه، فقالت للصّمد: لا تنصبه إن كان وقع في مخالب الذِّيب، ومني ببعض التَّعذيب، فأنت القادر عل تعويض الأطفال، والعالم بعقبى الطَّيرة والفال. فبينما هي تردَّد بين العلة والوله بغم لها الفقيد من حقفٍ اتخذ فيه مربضاً، ولم يرَ من الرُّماة منبضاً، هكع لما شبع. فما ساءه القدر ولا سبع. فغمر فؤادها ابتهاجٌ، من بعد ما وضح لها المنهاج.
ولو رجع القارظ إلى عنزة، ما بان فيها الطَّرب للرّجعة، وما قدر من زوال الفجعة، إلا دون ما أنا مضمرٌ مجنُّ، من المسرَّة بدنوِّ الدِّيار. وإلقائه عصا التِّسيار، فالحمد لله الذي أعاد البارق إلى الغمام الوسميّ، وأتى المومض بحلى السُّميّ وإنَّ حلب المنصورة لتختلُّ إلى من يعرف قليلاً من علم، في أيَّام المحاربة والسِّلم، فما باله يّد الله الآداب بأن يزيده في المدة فإنما لغرابها كالعدَّة.
وإني لأعجب من تمالؤ جماعة، على أمرٍ ليس بالحسن ولا الطاعة، ولا ثبت له يقينٌ، فيشوفه الصَّنع أو يقين قد كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا النَّدم، ولكنَّما أرهب قدومي على الجبَّار، ولم أصلح نخلي بإبار. وقيل لبعض الحكماء: إنَّ فلاناً تلطَّف حتى قتل نفسه، ولم يطق في الدّار الخالية عفسه، وكره أن يمارس بدائع الشُّرور، وأحبَّ النُّقلة إلى منازل السُّرور، فقال الحكيم قولاً معناه: أخطأ ذلك الشابُّ المقتبل، وله ولأمِّه يحقّ الهبل، هلاَّ صبر على صروف الزَّمان، حتى يمنو له القدر مانٍ؟ فإنَّه لا يشعر علام يقدم، ولكلِّ بيتٍ هدم! ولولا حكمة الله جلَّت قدرته، وأنَّه حجز الرَّجل عن الموت، بالخوف من العلز والفوت، لرغب كلُّ من احتدم غضبه، وكلَّ عن ضريبةٍ مقضبه، أن تنزع له من الموت كؤوسٌ، والله العالم بما يؤوس.
وأمَّا أبو القطران الأسديُّ، وأيُّ البشر من الخطوب مفديّ، فصاحب غزلٍ وتبطُّل، وتوفُّرٍ على الخرَّد وتعطُّل، وما أشكُّ أنّ الشّيخ، أقرّ الله عين الأدب بالز؟ َّيادة في عمره أشدّ شوقاً إلى أحمد بن يحيى مع صمعه، وأبي الحسن الأثرم مع ثرمه، من المرّار بن سعيد عند رجاء العدة وخوف الوعيد، وهو ذلك المتهيّم إلى وحشيّة، وإن فقد لبينها الحشيّة، وادّكر ثغراً كالإٌغريض، وخدّا ًيعدل بلون الإحريض وإنَّما ودُّ الغانية خلابٌ وخداعٌ، وللكمد في هواه ابتداعٌ. ولو هلكت تلك المرة والمرّار يعيش، لعدِّ أنَّه بتلفها نعيش، ولا سيَّما بعد السَّنّ العالية، وقوَّة النّفس الآلية. ولعلّ ابا القطران لو متّع بهذه المذكورة ما يكون قدره مائة حقبةًٍ، على غير الجزع والرِّقبة، لجاز أن يغرض من الوصال، إذا علم أنَّ حبله في اتِّصال. ولو نزل بها شيءٌ تتغيَّر به عن العهد، لتمننَّى أن تقذف إلى غير المهد، لأنَّ ابن آدم بخيلٌ ملول، نسري به إلى المنيَّة أمونٌ ذلول. ولو أصابها العور، بعد أن سكن عينها الحور، لظنَّ أن ذلك نبأ لا يغفر ولا يكفَّر، فكيف يعتب على الفاهين، وينتقم من القوم السّاهين؟ والله سبحانه، قد رفع ذلك عن ساهٍ ما علم، ونائمٍ إذا أحسّ بالمؤلم ألم.
ومن أين لذلك الشّخص الأسدي، ما وهبه الله للشيخ من وفاءٍ لو علم به السّموءل لاعترف أنَّه من الغادرين، أو الحارث ابن ظالم لشهد أنَّه من السّادرين؟؟؟! من قولهم فعل كذا وكذا سادراً، أي لا يهتمُّ لشيء، وإنّما عاشر أبو القطران أعبداً في الإبل وآمياً، ونظر إلى عقبه دامياً، ممَّا يطأ على هراسٍ،ومن له في المكلأة بالفراس؟ وهو التِّمر الأسود، ومن أبيات المعاني:
إذا أكلوا الفراس رأيت شاماً ... على الأنباث منهم والغيوب
فما تنفكُّ تسمع قاصفاتٍ ... كصوت الرّعد في العام الخصيب
ولعلّه لو صادف غانيةً على وحشيّة بشقِّ الأبلمة لسلاها غير المؤلمة، وإنَّما ديدن ذلك الرّجل ونظرائه صفقه ناقةٍ أو ربع، وما شجره المغترس بالنَّبع. إذا جنى الكمأة بجح، وخال أنَّه قد نجح! ولو حضر أخونة حضرها الشّيخ لعاد كما قال القائل:
فلو كنت عذريَّ العلاقة لم تبت
بطيناً، وأنساك الهوى كثرة الأكل وهو، قدَّر الله له ما أحبَّ، قد جالس ملوك مصر التي قال فيها فرعون: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ وقد أقام بالعراق زمناً طويلاً، وأدام على الأدب تعويلاً، وبالعراق مملكة فارس، وهم أهل الشَّرف والظّرف، يوفي صرفهم في الأطعمة على كلِّ صرف، ولا ريب أنَّه قد جالس بقاياهم، واختبر في المعاشرة سجاياهم، وعاطوه الأكؤس ألات التّصاوير، على عاد المرازبة والأساوير، كما قال الحكميُّ:
تدور علينا الكأس في عسجديَّةٍ ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى، وفي جنباتها ... مهاً تدَّريها بالقسيّ الفوارس
وأبو القطران كان يستقي النُّطفة بخلبةٍ، ويجعلها في الغمر أو العلبة، وإذا طعم فمن له باللَّهدة، وإن أخصب شرع في النَّهيدة. وما أشكُّ أنَّه، أمتع الله الآداب ببقائه، لو رزق محاورة أبي الأسود على عرجه وبخله المتناذر وجرجه، لكانت مقتة له أبلغ من مقة مهديّ ليلاه ولا أقول رؤبة أبيلاه. ولو أدرك محاضرة أبي الخطَّاب لكان بدوش عينيه أشدَّ شغفاً من الحادرة بسميَّة، ومن غيلان بميَّة لأنّه قال:
وعيان قال الله: كونا، فكانتا، فعولان بالألباب ما تفعل الخمر وهو بجلع أبي الحسن سعيد بن مسعدة، أعجب من كثيِّر بشنب عزَّة، والعذريِّ بلمى بثينة. ولو كان أبو عبيدة أذفر الفم، لما أمنت مع كلفه بالأخبار، أن يقبِّله شقَّ البلسة بلا استكبار، وفي الحديث عن عائشة، رحمة الله عليها: كان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقبِّلني شقَّ التينة. وروى بعضهم: شقَّ التمرة. وذلك أن يأخذ الشّفة العليا بيده، والسُّفلى بيده الأخرى، ويقبِّل ما بين الشفتين.
وأما من فقده من الأصدقاء لمّا دخل حلب، حرسها الله، فتلك عادة الزَّمن، ليس على لسالم بمؤتمن، يبدِّل من الأبيات المسكونة قبوراً، ولا يلحق بعثرة جبوراً. وإنَّ رمس الهالك لبيت الحقَّ، وإن طرق بالملمَّ الأشقّ. على أنّه يغني الثّاوي بعد عدمٍ، ويكفيه المؤونة مع القدم. وإنَّ الجسد لمن شرٍّ خبيءٍ، يبعد من سبيٍ وسبيء. قال الضّبيّ:
ولقد علمت بأن قصري حفرةٌ ... ما بعدها خوفٌ عليَّ ولا عدم
فأزور بيت الحقِّ زورة ماكث ... فعلام أحفل ما تقوَّض وانهدم؟
وما زالت العرب تسمّي القبر بيتاً، وإن كان المنتقل إليه ميتاً، قال الرّاجز:
اليوم يُبنى لدويد بيته ... يا ربَّ بيت حسبٍ بنيته
ومعصمٍ ذي برةٍ لويته ... لو كان للدّهر بلىً أبليته
أو كان قرني واحدا ًكفيته فأمّا الفصل الذي ذكر فيه الخليل، فقد سقط منه اسم الذي غلا فيَّ، وقرن بالنُّجوم الصَّلافيَّ، ومن كان، فغفر الله جرائمه، وحفظ له في الأبد كرائمه، فقد أخطأ على نفسه فيما زعم وعليَّ، ونسب مالا أستوجب إليَّ. وكم أعتذر وأتنصَّل، من ذنبٍ ليس يتحصَّل!؟ وإنَّي لأكره بشهادة الله تلك الدَّعوى المبطلة، كراهة المسيح من جعله ربَّ العزَّة، فما ترك للفتن من مهزَّة بدليل قوله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنّاس اَّتخذوني وأمِّي إلهين من دون الله، قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍّ، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنِّك أنت علاَّم الغيوب ".
وأمّا أبو الفرج الزَّهرجيُّ فمعرفته بالشّيخ تقسم أنّه للأدب حليفٌ، وللطَّبع الخيَّر أليفٌ.
ووددت أنَّ الرَّسالة وصلت إليَّ، ولكن ما عدل ذلك العديل، فبعدما تغنَّى هديل، هلاَّ اقتنع بنفقةٍ أو ثوبٍ، وترك الصُّحف عن نوب!؟ فأرب من يديه، ولا اهتدى في اللَّيلة بفرقديه. لو أنّه أحد لصوص العرب الذَّين رويت لهم الأمثال السّائرة، وتحدَّثت بهم المنجدة والغائرة، لما اغتقرت ما صنع بما نظم، لأنّه أفرط وأعظم، أي أتى عظيمة وبتك من القلائد نظمةً.
وقد وفَّق أبو الفرج وولده، وصار كاللُّجّة ثمده، لمَّا درس عليه الكتب، وحفظ عنه ما يكون الترُّتب، فسلَّم العاتكة إلى القاريِّ، والنَّافجة إلى المرء الدّاريّ، والرُّمح الأطول إلى ابن الطُّفيل، والأعنَّة إلى أحلاس الخيل.
وإن كان الشّيخ مارس من التَّعب أمَّ الرُّبيق، فقد جدّد عهده الأوَّل بقويق، وإنَّه لنعم النَّهر، لا يغرق السّابح ولا يبهر، وبناته المخطوبات صغارٌ، يؤخذن منه في الغفلة ولا يغار. يعلوهنَّ، والقدر يغولهنَّ، سترن الأنفس فما تبرَّجن، ولكن بالرّغم خرجن. خدورهنَّ من ماء، زارتهنَّ الملموءة بالإلماء والملموءة الشّبكة، يقال: ألمأ على الشيء إذا أخذه كلَّه ما يشعر قويقٌ المسكين، أعربٌ سبت من ولد أم رومٌ، ولا يحفل بما تروم. ولقد ذكره البحتريُّ، ونعته الصنَّوبريُّ، وإخال أنَّ الشّيخ أفسدته عليه دجلة وصراتها، وأعانها على ذلك فُراتها.
وأمَّا حلب، فإنّها الأمُّ البرَّة، تعقد بها المسرَّة، وما أحسبها، إن شاء الله، تظاهر بذميم العقوق، أو تغفل المفترض من الحقوق ووحشيّة يحتمل أن يكون، آنس الله الآداب ببقائه، جعلها نائبة عمن فقده من الإخوان، الذين عُدم نظيرهم في الأوان. وكذلك تجري أمثال العرب: يكنون فيها بالاسم عن جميع الأسماء، مثال ذلك أن يقول القائل:
فلا تشلل يدٌ فتكت بعمروٍ، ... فإنّك لن تُذلُّ ولن تضاما
يجوز أن يرى الرجل رجلاً قد فتك بمن اسمه حسَّان أو عطاردٌ أو غير ذلك، فيتمَّثل بهذا البيت، فيكون عمرو فيه واقعاً على جميع من يتمثَّل له به. وكذلك قول الرّاجز:
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل صار ذلك مثلاً لكلَّ عمل عملاً لم يحكمه، فيجوز أن يُقال لمن اسمه خالدٌ أو بكرٌ أو ما شاء الله من الأسماء. ويضعون في هذا الباب المؤنَّث موضع المذكَّر، والمذكّر موضع المؤنَّث، فيقولون للرّجل: أطرِّي فإنِّك ناعلةٌ، والصيَّف ضيعَّت اللَّين، محسنة فهيلي، وابتدئيهنَّ بفعال سبيت. وإذا أرادوا أن يخبروا بأنَّ المرأة كانت تفعل الخير ثمّ هلكت فانقطع ما كانت تفعله، جاز أن يقولوا: ذهب الخير مع عمرو ابن حممة. وجائزٌ أن يقولوا لمن يحذِّرونه من قرب النّساء: لا تبت من بكريٍّ قريباً؛ والبكريُّ أخوك فلا تأمنه. ومثل هذا كثير.
وأمَّا شكواه إليّ، فإننّي وإيّاه لكما قيل في المثل: الثّكلى تعين الثكلى، وعل ذلك حمّل الأصمعيُّ قول أبي داود:
ويصيخ أحياناً كما اس ... تمع المضلُّ دعاء ناشد
كلانا بحمد الله مضلُّ، فعلى من نحمل وعلى من ندلُّ؟ أمّا المطيّة فآلية، وأمّا المزادة فخاليةٌ، والرّكب يفتقر إلى الحصاة، وكلَّهم بهش للوصاة:
يشكو إليّ جملي طرل السُّرى ... صبرٌ جميلٌ، فكلانا مبتلى
إن اشتكت السَّمرة سفن العاضد إلى السَّيالة، فإنَّها تشكو النّازلة إلى شاكٍ، والصَّدق أفضل من الابتشاك. ولا أرتاب أنَّه يحفظ قول الفزازيِّ منذ خمسين حجَّة أو أكثر:
أعيين هلاَّ إذ بلت بحبِّها ... كنت استعنت بفارغ العقل
أقبلت تبغي الغوث من رجلٍ ... والمستغاث إليه في شغل!
ولا يزل أهل الأدب يشكون الغير في كلَّ جيل، ويخصُّون من العجائب بسجلٍ سجيلٍ. وهو يعرف الحكاية أنّ مسلمة بن عبد الملك أوصى لأهل الأدب بجزءٍ من ماله، وقل: إنَّهم أهل صناعةٍ مجفوَّةٍ. وأحسب أنَّهم والحرفة خلُقا توأمين، وإنما ينجح بعضهم في ذات الزُّمين، ثمّ لا تلبث أن تزل قدمه، ويتفرَّى بالقدر أدمه. وقد سمع في مصر بقصَّة أبى الفضل وسعيد،وما كان أحدهما من الآخر ببعيد. وإذا كان الأدب على عهد بني أميَّة يقصد أهله بالجفوة، فكيف يسلمون من باسٍ، عند مملكة بني العبّاس؟ وإذا أصابتهم المحن في عدَّان الرشيد فكيف يطمع لهم بالحظِّ المشيد؟ أليس أبو عبيدة قدم مع الأصمعيَّ وكلاهما يريد النُّجعة، ولا يلتمس إلى البصرة رجعة، فتشبِّث بعبد الملك، وردَّ معمرٌ، ومن يعلم بما يجنُّ الخمر.
ومن بغى أن يتكسَّب بهذا الفنِّ، فقد أودع شرابه في شنٍّ، غير ثقةٍ على الوديعة، بل هي منه في صاحب خديعة.
مصادر و المراجع :
١- رسالة الغفران
المؤلف: أحمد بن
عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى:
449هـ)
الناشر: مطبعة
(أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر
صححها ووقف على
طبعها: إبراهيم اليازجي
الطبعة: الأولى،
1325 هـ - 1907 م
16 يوليو 2024
تعليقات (0)